الفقرة الرابعة: مداخلة د. صالح طليس
طبيعة النظام اللبناني من خلال دور رئيس الجمهورية في التكليف والتأليف
يُجمع رجال القانون والسياسة على أنّ تعديلات الطائف غيّرت طبيعة النظام اللبناني، لكنهم لم يُجمعوا على طبيعة هذا النظام إذ استمر خلافهم السابق حول طبيعة النظام الجديد. فالطبيعة الجديدة لنظامنا السياسي ليست واضحة وينظر اليها كل فقيه بمنظاره الشخصي ويقرأ منها كل سياسي بما يخدم مصالحه الآنية، وان تغيرت المصالح تتغير القراءة.
ألا يراه البعض نظاماً برلمانياً والبعض الآخر يراه توافقياً، ومن كان يراه توافقياً في السابق، وهل لا يزال يراه كذلك اليوم؟ ولكن إن كانت قراءتهم سياسية وابعادها مصالح شخصية، فهل يمكن ان تكون قراءتنا موضوعية وبابعاد قانونية غير سياسية؟ هذا ما سنحاول القيام به.
فإذا ما حاولنا تحديد طبيعة النظام من قراءة الفقرة ج من المقدمة "لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية"، واذا ما كنّا متفقين حول الجمهورية والديمقراطية التي أصبحت ميزة تدعيها، اليوم، كافة أنظمة العالم السياسية حتى التي تصنف دكتاتورية. فإن الديمقراطية البرلمانية لها معنى أبعد وأعمق، وان كانت قراءتها البريئة تذكر بالنظام البرلماني البريطاني فان المواد: 17 و65 والممارسة السياسية تذكرنا بنظام سياسي آخر أعني النظام التوافقي السويسري فأين نحن من هذين النظامين.
كلنّا يعلم إن أبرز التعديلات التي تناولت طبيعة النظام السياسي صراحة وضمنياً، مباشرة أو غير مباشرة طالت السلطة التنفيذية، وخاصة المادة 17 التي نقلت السلطة التنفيذية من رئيس الجمهورية لتضعها في يد مجلس الوزراء مجتمعاً ثم تكرر العبارة ذاتها في المادة 65 (تناط السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء).
كما انه من المعروف أن النظم السياسية تصنف مبدئياً وفقاً للطريقة التي تنبثق عنها السلطة التنفيذية الفعلية أو على الأقل يرتبط تشكيل السلطة بها، فالرئاسية تكون عندما ينتخب الرئيس من الشعب، والبرلمانية عندما تتشكل السلطة التنفيذية وفق ارادة البرلمان، وشبه الرئاسية عندما تشكل هذه السلطة من رئيس منتخب من الشعب وحكومة حائزة على ثقة البرلمان.
من هنا يبدأ التداخل بين طبيعة النظام وصلاحيات رئيس الجمهورية التي هي عنوان مؤتمرنا، ومن هنا تظهر أهمية تحديد طبيعة النظام اللبناني وتأثيراتها على صلاحيات رئيس الجمهورية ودوره في تكليف رئيس الحكومة ودوره في تشكيل الحكومة.
فاذا انطلقنا من فرضية أن النظام هو برلماني فان صلاحيات الرئيس يجب أن تشبه صلاحيات رئيس الدولة في هكذا نظم، واذا انطلقنا من فرضية ان النظام هو نظام توافقي، فالموضوع يختلف كلياً اذ قد لا نجد صلاحيات أو أي دور للرئيس على عكس ما نجده في نظامنا السياسي والدستوري اللبناني نصاً وممارسة.
وللاجابة على هذه التساؤلات حول طبيعة النظام اللبناني وصلاحيات رئيس الجمهورية، سنحاول الإطلاع على صلاحيات ودور رئيس الدولة في النظم الجمهورية البرلمانية الشبيهة بنظامنا، والتي ينتخب فيها رئيس الدولة من قبل البرلمان، وذلك على صعيد تكليف رئيس الحكومة وتأليف الحكومة (أولاً)، ثم نستعرض دور رئيس الجمهورية اللبناني في التكليف والتأليف (ثانياً)، لنستنتج منها طبيعة النظام اللبناني وموقعه بين النظم السياسية.
أولاً: دور رئيس الدولة في التكليف والتأليف في النظم الجمهورية البرلمانية
تعتبر بريطانيا النموذج الاساسي للنظم البرلمانية القائمة في العالم، وهذه النظم هي اكثر انتشاراً من النظم السياسية الاخرى ولكن هذه الانظمة تقترب او تبتعد عن النظرية البريطانية تبعاً لظروف واوضاع ومعطيات كل دولة وتجاربها السياسية التي تعيشها او التي عاشتها. ويعود سبب التنوع في الانظمة البرلمانية الى تشكيل السلطة التنفيذية والى توزيع الصلاحيات بين رأسي السلطة التنفيذية اكثر مما هو ناتج عن توزيع في الصلاحيات بين السلطتين على حد تعبير الدكتور عصام سليمان( ). فمن المعروف أن النظم البرلمانية تتميز بثنائية تكوين السلطة التنفيذية (رئيس دولة – مجلس وزراء) أو بالأحرى وجود رأسين للسلطة التنفيذية وهو ما يعتبر من المظاهر المشتركة في النظم البرلمانية بشكليها الملكي والبرلماني.
وما دام تساؤلنا يدور حول النظام الجمهوري البرلماني الذي أوردته الفقرة ج من دستورنا، فسنحصر دراستنا بهذه النظم التي ينتخب فيها رئيس الدولة من قبل البرلمان. لانه لو انتخب من قبل الشعب لأصبح النظام رئاسي او شبه رئاسي، وهذا ليس موضع بحثنا.
لذلك سنقوم بالإطلاع على دور رئيس الجمهورية في مجالي التكليف والتأليف في النظم الجمهورية البرلمانية والتي ينتخب رئيس الدولة بواسطة برلمانها كما هو الحال عندنا، ومن أبرزها ايطاليا، المانيا، اليونان، الهند، تركيا.
أ- ايطاليا: تطبق ايطاليا النظام البرلماني منذ صدور دستور 2/12/1947، الذي نصّ على انتخاب رئيس الجمهورية لمدة سبع سنوات من قبل البرلمان بمجلسيه (النواب والشيوخ)، وبالاقتراع السري وبأكثرية الثلثين في دورات الاقتراع الثلات الأولى وبالأكثرية المطلقة في الدورات التي تلي. وجعل الدستور من الرئيس رئيساً للدولة وليس للسلطة التنفيذية وأعطاه صفة الممثل للوحدة الوطنية.
أما لجهة دوره في تكليف رئيس الحكومة فقد أعطاه الدستور صلاحية تسمية رئيس الحكومة منفرداً، لكن لم يعطه أي دور في تشكيل الحكومة إذ عليه ان يعين الوزراء بناء على اقتراح رئيس الحكومة، كما لم يعطه الدستور صلاحية ترؤس مجلس الوزراء.
واذا كان الدستور اعطى الرئيس الايطالي صلاحيات عديدة تسمح له بأن يلعب دور الحكم وليس الحاكم، فان تعدد الاحزاب والكتل النيابية وعدم وجود ثنائية حزبية منحه هامشأ واسعاً في اختيار رئيس الحكومة، أي أن دوره في الممارسة تجاوز دوره في النّص الدستوري بسبب التعددية الحزبية.
ب- المانيا: ينتخب رئيس الدولة في المانيا لمدة 5 سنوات قابلة للتجديد من قبل جمعية خاصة مؤلفة من اعضاء مجلس النواب " البندستاغ"، ومن عدد مماثل من بين اعضاء المجالس النيابية في الاتحاد الفدرالي.
أعطى الدستور الالماني الرئيس الحق بأن يقترح على مجلس النواب انتخاب مستشار ما (رئيس حكومة) لكنه ملزم معنوياً بتسمية زعيم الأغلبية النيابية، كما يعيّن الوزراء بناء على اقتراح المستشار الذي أعطاه الدستور صلاحية التوقيع على كل قرارات الرئيس باستثناء مرسوم تعيينه واقالته "اذا فقد ثقة مجلس النواب" ، وحتى قرار حل مجلس النواب الذي يوقعه منفرداً فيكون بناءً على اقتراح المستشار (م78).
على عكس ايطاليا نجد أن النظام الحزبي الذي يتجه الى شكل من الثنائية الحزبية يؤدي الى استقرار حكومي ساهم في اضعاف دور الرئيس في عمليتي التكليف والتأليف اضافة الى انه لا يمكنه لعب دور الحكم، لان الدستور لم يعطه صلاحيات تسمح له بالتأثير على الحكومة او على البرلمان بمجلسيه.
ج- اليونان: ينتخب الرئيس اليوناني من قبل البرلمان بأغلبية الثلثين في الدورة الاولى، ثم تعاد دورة ثانية بعد خمسة أيام، واذا لم ينتخب تجري دورة ثالثة وينتخب بأغلبية 3/5 الاصوات، واذا لم ينجح البرلمان في ذلك يتم حل مجلس النواب.
أعطى الدستور اليوناني الرئيس صلاحيات تمكنه من التأثير على السلطتين التشريعية والتنفيذية معاً، والقيام بدوره كحكم بين السلطات، ونصت المادة 30 من الدستور ان الرئيس هو (حكم بين المؤسسات).
يختار رئيس الجمهورية رئيس الحزب الحائز على تأييد الأغلبية المطلقة من اعضاء مجلس النواب ويكلفه بتشكيل الحكومة، واذا لم ينل أي حزب تأييد الأغلبية المطلقة فيسمي الرئيس من يملك الأغلبية النسبية، واذا لم يحصل أحداً على هذه الأغلبية فيختار الرئيس من يحتل المرتبة الثانية في التمثيل داخل المجلس النيابي واذا فشل فله أن يسمي لرئاسة الحكومة من يقترحه مجلس الجمهورية. أما تعيين الوزراء فيتم بناءاً على اقتراح رئيس الحكومة، ودوره في اقالة الحكومة لا يتم الا بعد أخذ رأي مجلس الجمهورية.
يعطي الدستور اليوناني رئيس الدولة صلاحيات كثيرة ومتقدمة على سائر السلطات، من خلال الاستفتاء ومجلس الجمهورية المحيط به، لكن ما يعطيه الدور الكبير هو التعددية الحزبية وعدم وجود ثنائية حزبية.
د- الهند: ينتخب الرئيس الهندي ونائبه بطريقة غير مباشرة من قبل هيئة انتخابية تتألف من اعضاء البرلمان الفدرالي والمجالس التشريعية في جميع الولايات. يعين الرئيس رئيس الوزراء والذي يكون من حزب او تحالف الاحزاب التي تتمتع بالاغلبية البرلمانية. أي أن رئيس الوزراء يعتبر منتخباً بشكل غير مباشر من قبل الشعب، لان الشعب ينتخب حزبه في الانتخابات. وبالنسبة لتعيين الوزراء فان رئيس الدولة يعيّنهم بناءً على اقتراح رئيس الوزراء.
وان اعطاه الدستور بعض الصلاحيات كرئيس للسلطة التنفيذية، فانه في الواقع هو رئيس رسمي (شكلي) للسلطة التنفيذية، اما الرئيس الفعلي فهو رئيس الحكومة وكافة القرارات الحكومية تتخذ في مجلس الوزراء برئاسة رئيس مجلس الوزراء.
هـ - تركيا: تركيا احدى النظم البرلمانية التي كان ينتخب فيها رئيس الدولة من قبل البرلمان باغلبية ثلثي أعضاء المجلس الوطني وبالافتراع السري، وفي حال عدم فوز أي مرشح يتم انتخاب من يحصل على الأكثرية المطلقة في الدورة الثالثة، وإلا تجري دورة رابعة يفوز فيها أحد المرشحين الذين يحصلان على أكبر عدد من الأصوات في الدورة الثالثة.
لرئيس الدولة التركي صلاحيات تبدو ظاهرياً محدودة لكنها في الواقع مختلفة، اذ له الحق في تعيين وقبول استقالة رئيس الحكومة والموافقة على تعيين الوزراء او اقالتهم بتكليف أو اقتراح من رئيس الحكومة وله الحق في دعوة مجلس الوزراء للانعقاد وترؤس الجلسة اذا رأى ضرورة لذلك.
كما ان الرئيس يشارك بشكل فعلي في اعمال السلطة التنفيذية باصدار قرارات هامة وبسيطرته على ادارات وهيئات في غاية الاهمية والحساسية مثل مشاركته في انتخاب واختيار اعضاء المحكمة الدستورية و25% من اعضاء مجلس الدولة ورئيس نيابة المحكمة العليا والمحكة الادارية والعسكرية و... اعضاء المجلس الأعلى للقضاء.
لكن تعديل 21 تشرين الاول 2007 جعل الانتخاب من قبل الشعب وعدّلت فترة الولاية لتصبح 5 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة بدلاً من مدة 7 سنوات التي كانت سابقاً؛ أي ان تركيا ستتحول إلى النظام شبه الرئاسي بعد نهاية ولاية الرئيس الحالي في العام الجاري.
يتبيّن لنا من هذه القراءة السريعة للنظم الجمهورية البرلمانية والتي ينتخب رئيس الدولة فيها من قبل البرلمان أنه من حق رئيس الدولة ان يعين رئيس الوزراء والوزراء ويقيلهم، لكن هذا الحق مقيد بضرورة اختيارهم من حزب الأغلبية في البرلمان، وفي حالة عدم قيام رئيس الدولة بتعيين الوزراء يتولى المهمة عنه البرلمان حيث يمنح الثقة للحكومة. وان دوره كالتالي:
يتراوح دور الرئيس في التكليف بين مجرد تسمية رئيس الاغلبية، كما هو الحال في النظام البرلماني الالماني وخاصة في حال الثنائية البرلمانية، وبين الشريك مع البرلمان في حال التعددية الحزبية وعدم وجود زعيم لاغلبية برلمانية (اليونان).
لا تعطي النظم البرلمانية أي دور لرئيس الدولة في تعيين الوزراء التي تبقى من صلاحية رئيس الحكومة ووفقاً لثقة الاغلبية البرلمانية.
فإذا كان دور رئيس الدولة معدوماً في النظم الجمهورية البرلمانية لجهة تأليف الحكومات ومقيداً أو محصوراً بالنسبة لتكليف رئيس الوزراء وفقاً للتعددية الحزبية والواقع السياسي، فما هو وضع رئيس الجمهورية اللبناني؟.
ثانياً: دور رئيس الجمهورية في تسمية رئيس الوزراء وفي تشكيل الحكومة
أثار تعديل المادة 53 من الدستور بموجب اتفاق الطائف تساؤلات عديدة وجدالاً مستمراً، لأن النص القديم كان (رئيس الجمهورية يعين الوزراء ويسمي منهم رئيساً و.......)، ليصبح في الفقرة 2 من المادة 53 الجديدة: "يسمي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكّلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً الى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسمياً على نتائجها". وجاءت الفقرة الرابعة من المادة المذكورة لتنص: "يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو اقالتهم" كما جاءت الفقرة 2 من المادة 64 التي تحدثت عن صلاحيات رئيس مجلس الوزراء لتنص "يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها".
ومن أبرز التساؤلات التي لا تزال مثارة في الاوساط السياسية والفقهية:1- هل الرئيس ملزم بتسمية الشخص الذي ينال اكبر عدد من الاصوات في الاستشارات او الذي يحوز على أغلبية معينة، ام انه غير ملزم بنتائج هذه الاستشارات التي الزم رئيس الجمهورية باجرائها.
2- ما هو دور رئيس مجلس النواب في الاطلاع على نتائج الاستشارات وفي المشاورات؟
3- ما هو دور رئيس الجمهورية في تسمية اعضاء الحكومة التي يوقع ويصدر مرسوم تشكيلها؟
1- دور رئيس الجمهورية في تسمية رئيس الحكومة المكلف
نشأ خلال العهود الرئاسية السابقة لاتفاق الطائف عرفاً دستورياً يتناقض مع نص المادة 53 القديمة، إذ أن المادة الاخيرة كانت تنص بشكلٍ واضح لا يحمل التأويل على ان رئيس الجمهورية يعين الوزارء ويسمي منهم رئيساً...." لكن العرف الدستوري الذي بدأ يطبق بعد ميثاق 1943 كان يقضي بإجراء استشارات نيابية، لكن دون ان يلزم رئيس الجمهورية بالأخذ بنتائجها. وهذا العرف كان يقضي باصدار مرسوم جمهوري يوقعه رئيس الجمهورية منفرداً بتسمية رئيس الحكومة ويصدر مرسوماً آخر يقترن بتوقيع رئيس الحكومة المكلف ويتضمن اسماء الوزراء المعنيين. وقد احترم رؤساء الجمهورية هذا العرف باستثناء الرئيس كميل شمعون الذي شذّ عنه عندما كلف الرئيس سامي الصلح دون استشارات نيابية عام 1956.
تحوّل هذا العرف الدستوري بعد الطائف الى نص دستوري في المادة 53 المعدلة لكن مع اضافة الزام الرئيس بالأخذ بنتائج الاستشارات، فما هي خلفية هذا النص او بالاحرى ما هو مصدر هذا النص وما مدى الزامه لرئيس الجمهورية؟
للاجابة على هذا التساؤل بموضوعية لا بد لنا من الاطلاع على خلفيات هذا النص وموقف الفقه منه، وعلى كيفية تطبيقه في العهود الرئاسية التالية لاتفاق الطائف أولاً، وعلى كيفية ممارسة الرئيس لدوره في تأليف الحكومة ثانياً.
أ-
الخلفية الدستورية
: تعود جذور هذا النص الدستوري الى دستوري الجمهورية الرابعة الفرنسية الصادرين في 19 نيسان 1946 وفي 27 تشرين اول 1946، حيث أوردت م 76 من الدستور الاول: ان رئيس مجلس الوزراء ينتخب في بداية كل دور اشتراعي للجمعية الوطنية بالاقتراع العام وبالغالبية المطلقة من النواب...)، وورد في الدستور الثاني: "ان رئيس الجمهورية في بداية الدور الاشتراعي وبعد اجرائه الاستشارات يعين رئيس الوزراء" ثم أضافت المادة 94 "بعد الاستشارات التي يجريها يبلغ الى رئيس الجمعية الوطنية اسماء المرشحين لرئاسة مجلس الوزراء".
ب-
الخلفية السياسية
: تعود الخلفية السياسية لهذا النص الى المطالبة الاسلامية بتولي رئيس الحكومة الشخص الذي يحوز على ثقة اغلبية النواب وليس على ثقة رئيس الجمهورية، وذلك لتحريره من التبعية لرئيس الجمهورية واطلاق يده في العمل السياسي اسوة بالنظم البرلمانية.
ج-
موقف الفقه
: تعددت الآراء الفقهية حول تفسير الفقرة 2 من المادة 53 الجديدة، فالعديد من هذه الآراء يرى ان الغالبية النيابية المطلقة تقيد رئيس الجمهورية في تحديد اسم المرشح لرئاسة الحكومة، ويقول النائب السابق نصري المعلوف الذي كان أحد الذين شاركوا في صياغة اتفاقية الطائف، " ان رئيس الجمهورية ملزم بتسمية من ينال الاكثرية النيابية، لأن عليه ان يطلع رئيس المجلس على النتائج وهذا الرأي الذي جاء تأييداً لموقف الرئيس حسين الحسيني كان انطلاقاً من فكرة مفادها ان المادة 53 هدفت الى نقل صلاحية تحديد الرئيس المكلف من رئاسة الجمهورية الى مجلس النواب ووضع قواعد واضحة لذلك بحيث تصبح التسمية بيد الأكثرية المطلقة من اصوات النواب الذين يستشيرهم رئيس الجمهورية؛ أي تصبح تسمية رئيس الوزراء اللبناني مشابهة لتسمية رئيس الوزراء في النظم الجمهورية البرلمانية التي تحدثنا عنها في البند الأول من هذه الدراسة.
وبالنسبة الى التشاور اللاحق مع رئيس مجلس النواب، يرى الدكتور ادمون رباط "أن التشاور اللاحق ينبغي الا يدفع بحصيلة الاستشارات النيابية الملزمة الى غير ما توخته تسمية النواب رئيس الحكومة المكلف، واخذ رئيس الجمهورية وبالزام صريح بحصيلة هذه التسمية متى اقترنت بالغالبية المطلقة، دون الجنوح الى خيارات اخرى بديلة، او على الاقل لم تقل بها آراء النواب. ويضيف رباط : "ينبغي ألا يتعارض هدف هذا التشاور مع هدف اجراء الاستشارات النيابية اللازمة ولا مع ما رمت اليه في ما يتعلق بانتقال صلاحية التعيين. والا فأي مغزى لاجرائها اذا اقتضى تشاور رئيس الجمهورية والبرلمان متفاهمين او مختلفين الى اطاحتها برمتها وطرح خيارات اخرى مفاجئة".
يستخلص من هذه الاراء ان التشاور اللاحق لا يجوز ان يؤدي الى أخذ الرئيس بخيارات تعاكس رأي الاغلبية البرلمانية المطلقة. والا نسفنا النص الدستوري الهادف الى اجراء الاستشارات. ونسفنا معها اسس النص البرلماني الذي اكدت اعتماده مقدمة الدستور بعد الطائف.
مقابل هذه الاراء ظهرت اراء اخرى تفسر الفقرة 2 بأن الاستشارات تعني ان يتحرى رئيس الجمهورية بكل ما لديه من وسائل من اجل معرفة الشخص الذي يكون اوفر حظاً في الحصول على الثقة عندما تمثل الحكومة امام المجلس، وان موجب الالزام الوارد في النص هو موجب معنوي فقط لأن المعاقبة على الالزام او عدمه تتم عند نيل الثقة كما قال أدمون نعيم.
ويرى البعض الآخر أن إجراء الاستشارات من قبل الرئيس تعني عدم تجريده من مجمل صلاحياته الدستورية السابقة في هذا الموضوع. فهناك رأي سابق للرئيس نبيه برّي يرى فيه ان الرئيس ليس صندوقة اقتراع متسائلاً: "إذا كان ملزماً بالأكثرية فلماذا التشاور مع رئيس مجلس النواب واطلاعه على نتائج المشاورات؟".
2- اطلاع رئيس المجلس النيابي على نتائج الاستشارات والتشاور معه
إن النص على اطلاع ومشاورة رئيس مجلس النواب مستوحى من النصوص الدستورية الفرنسية للجمهورية الرابعة كما قلنا سابقاً وهي تعطي لرئيس المجلس وظيفتان أخريان: الاطلاع على نتائج الاستشارات الملزمة اولاً، ثم مشاورات رئيس الجمهورية في التسمية قبل صدورها ثانياً.
أ-
اطلاع رئيس المجلس
: تتعدد الاراء حول دور رئيس المجلس النيابي في الاطلاع على نتائج الاستشارات، وتتباين هذه الاراء بتباين المواقف السياسية من رئيس المجلس. فهناك من يعتبر ان لا دور في المطلق لرئيس مجلس النواب في عملية الاستشارات وان هذا الدور في الاطلاع لا يطبق معتبراً ان هذا النص كان بلا معنى كما قال النائب الاسبق حسن الرفاعي.
وهناك من جاء رأيه ملطفاً نسبياً اذ اعتبر ان وظيفة الاطلاع هي محدودة الاثر وتعني اخذ العلم رسميا نتائج الاستشارات، حيث رأى ادمون نعيم ان دور رئيس المجلس في استشارات التكليف يقتصر على لعب دور الشاهد، ودور اعلام الجمعية العامة للمجلس بنتيجة الاستشارات.
لكن النائب السابق نصري المعلوف يؤكد ان هناك مناقشات جرت في الطائف حول حضور رئيس المجلس مع رئيس الجمهورية للاستشارات، لكن تمّ غضّ النظر عنها لانها تقلل من احترام رئيس الجمهورية وكأنه لم يعطِ النتائج الصحيحة. ويؤكد هذا القول للمعلوف أهمية الاطلاع الذي يشكل مرحلة تسبق المشاورة وجزء أساسي منهما.
ب-
التشاور مع رئيس مجلس النواب
: تتضاءل أهمية تشاور رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب في حال حصول شخص على تأييد أكثرية مطلقة من عدد النواب لتوليه رئاسة الحكومة، وكلما ازدادت هذه الاكثرية كلما خفّت اهمية هذا التشاور ويصبح اطلاع رئيس المجلس على سبيل العلم من جهة، ولابلاغ مجلس النواب بهذه النتيجة من جهة ثانية وذلك عملاً بأسس النظام البرلماني ومبادىء الديمقراطية واحتراماً لاراء ممثلي الشعب.
لكن أهمية التشاور تزداد في حال عدم حصول اي شخص على اغلبية اصوات النواب وعندها يتضاعف دور الرئيسين كما تزداد مسؤوليتهما كون رئيس الجمهورية سيتحمل مسؤولية قراره بتحديد الرئيس المكلف ورئيس مجلس النواب سيتحمل مسؤولية الرأي الذي سيعطيه والذي يفرض عليه في حال اخذ رئيس الجمهورية به موجب العمل على تأمين الثقة للحكومة التي سيشكلها، اذ عليه ان يسعى لتوفير الظروف اللازمة واقناع الكتل النيابية لمنح الثقة لهذه الحكومة.
يظهر لنا مما أوردنا اعلاه ان دور رئيس الجمهورية في تكليف رئيس الحكومة بعد الطائف جاء كحلٍ وسط بين دوره كصندوق بريد وبين اطلاق يده كما كان الوضع قبل الطائف، وهذه الصلاحية الوسط تنعدم او تقل الى حدها الادنى عندما تجمع الاكثرية النيابية على شخص معين، وتزداد الصلاحية كلما تدنت هذه النسبة حيث عليه عندها اختيار الرئيس المكلف في ضوء تشاوره مع رئيس مجلس النواب. ومع الاخذ بعين الاعتبار خيارات النواب المتنوعة، وظروف ومقتضيات المرحلة اقليمياً وداخلياً، والعلاقات الشخصية والتحالفات السياسية وغيرها، خاصة في حال امتناع العديد من النواب عن تسمية مرشحهم.
نستنتج من ذلك ان دور رئيس الجمهورية في تكليف رئيس الحكومة يشبه دوره في النظم البرلمانية التي تناولناها في البند الاول ليتراوح بين تكليف زعيم الاغلبية النيابية اذا وجد دون امكانية تغييره وبين مشاركته في الاختيار في حال عدم وجود هذا الزعيم.
3- دور رئيس الجمهورية في تشكيل الحكومة
قنّن دستور 1990 العرف الدستوري الذي كان سائداً قبل الطائف والذي كان يقضي بتوافق رئيس الجمهورية والحكومة على تشكيل الوزارة، لكن دون ذكر اي آلية للعمل في حال عدم توافقهما والذي يعرض البلاد لأزمة حكم كما حصل بعد اغتيال الرئيس الحريري. واذا كان هذا التوافق يعتبر تجاوزاً لاسس النظام البرلماني التي يقتصر فيها تشكيل الحكومة على رئيس مجلس الوزراء، فان تبريره هو الخصوصية اللبنانية التي جعلت رئيس الجمهورية الذي يمثل فئة اساسية من مكونات المجتمع اللبناني شريكاً في الحكم من جهة وحكماً من جهة أخرى.
وجاء تعديل الطائف ليغير دور رئيس الجمهورية من دور مماثل لدور رؤساء النظم الرئاسية المطلق في تشكيل الحكومة الى دور يشبه دور الرئيس في النظم شبه الرئاسية مثل النظام الفرنسي بعد عام 1958، الذي يسمح لرئيس الجمهورية بالتدخل في فرض بعض الوزراء على رئيس الحكومة المكلف، حيث كان الرئيس ديغول يتدخل في تشكيل الحكومات ويفرض وزراء على كل تشكيلة حكومية واحياناً كان يصر على استبدال البعض وخاصة عندما يكون مسيطراً على الاغلبية البرلمانية، بينما يصبح هذا الدور محدوداً عندما يفقد رئيس الجمهورية الفرنسي تأييد الاغلبية ويضطر للتعايش مع رئيس الحكومة. فكيف أصبح دور رئيس الجمهورية اللبناني؟
أ-
موقف الفقه
: يسلم الفقه اللبناني بوجود دور لرئيس الجمهورية على عكس النظم البرلمانية انطلاقًا من خصوصية النظام اللبناني الطائفية، فيقول النائب حسن الرفاعي "انه يمكن لرئيس الجمهورية التحفظ على اشخاص معينين واذا لم يفرض رأيه فرضاً يكون قد استقال طوعاً عن ممارسة صلاحياته، نظراً لان تشكيل الحكومة من حيث المبدأ عهد به الى رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء. ويرى النائب والوزير السابق البير منصور " ان دور رئيس الجمهورية الدستوري في تأليف الحكومة يكون في واجباته رعاية التوازنات الطائفية، مشدداً على خصوصية النظام البرلماني اللبناني بعد الطائف الذي يتميز عن النظم البرلمانية الغربية، بأنه لا يعتمد على الاكثريات وانما على توافق التوازنات، بحيث يكون دور الرئيس فاعلاً في تشكيل الحكومة وعليه واجب حفظ التوازنات ومنع الشطط والهوس الذي ينجم عن افتراض الربح في الانتخابات النيابية، وبحيث يكون على الرئيس ان يصحح في عملية التأليف الاخطاء التي تنجم عن قوانين الانتخاب والتي قد تكون غير عادلة، مع التأكيد على ان لا حكومة الا بموافقة الرئيس."
ب-
الممارسة السياسية في تشكيل الحكومات في عهد ما بعد الطائف
: خلال العهد الرئاسي الاول بعد الطائف كان الرئيس الهراوي يصرّ على توزير عدد كبير من الاصدقاء والمقربين اليه، وعلى استبعاد آخرين رغم طغيان شخصية الرئيس رفيق الحريري وكانت حصته يومها من خلال ما يسمى بالترويكا. أما في عهد الرئيس فؤاد لحود فقد كان هناك صراع بين الرئيسين في الفترة الاولى من ولاية رئيس الجمهورية ولكن الحلول كانت تتم في النهاية بعد تدخل ضابط الايقاع السوري. ومع تكليف الرئيس فؤاد السنيورة عام 2005، تمكن الاخير من فرض التشكيلة الحكومية التي يريدها رغم ان الاكثرية البرلمانية التي كانت تؤيده كانت 72 نائباً، مستفيداً من الواقع السياسي الذي فرضه اغتيال الرئيس الحريري، وبدأ الحديث يومها عن الثلث الضامن او الثلث المعطل (الفيتو) وخاصة بعد ان أخذت سيطرة الاكثرية تأخذ بعداً مذهبياً. وبعد انتخاب الرئيس ميشال سليمان وبناء على اتفاق الدوحة، تمّ الاتفاق على أن تكون حصّة رئيس الجمهوية في الحكومة، ثلاث وزراء. وفي حكومة العهد الثانية بعد انتخابات 2009 كانت حصة رئيس الجمهورية خمسة وزراء. اما في الحكومة الاخيرة فقد كانت حصته من ضمن الثلث الضامن الذي حصل عليه بالتحالف مع الرئيس ميقاتي والوزير جنبلاط، واعيد العمل بحصة الثلاث وزراء لرئيس الجمهورية، وهكذا بدت حصة الموارنة في السلطة التنفيذية تظهر في مجلس الوزراء اكثر مما تبرز في شخص رئيس الجمهورية.
نخلص من هذا الى ان النص الدستوري الجديد في الفقرة الرابعة من المادة 53 وفي الفقرة الثانية من المادة 64 الذي يعطي دوراً واضحاً في عملية تشكيل الحكومة التي يضع مع رئيس الحكومة مرسوم تكليفها قد بدأ يتجه بالتطبيق الى تحديد حصة محددة لرئيس الجمهورية في الحكومة واطلاق يد رئيس الحكومة في الباقي.
خاتمة:
من خلال هذه المقارنة بين دور رئيس الدولة في النظم الجمهورية البرلمانية والمقارنة، والى دوره في النظام السياسي اللبناني الى ان دوره في تكليف رئيس الحكومة يشبه دوره في النظم البرلمانية الشبيهة السابقة كما في فرنسا الرابعة او الحالية (اليونان وايطاليا).
لكن دور رئيس الجمهورية كرئيس دولة في تعيين الوزراء هو دور لا مثيل له في النظم البرلمانية وهو يشبه جزئياً دور الرؤساء في النظم شبه الرئاسية. واذا كان له من دور في عملية التكليف فهو بسبب التشرذم الحزبي والانقسامات السياسية والطائفية اكثر منه بسبب النصوص الدستورية.
وان هذا الدور الذي يمليه الواقع السياسي اللبناني يجعلنا نستنتج ان النظام البرلماني اللبناني هو نظام هجين من نوع خاص يجمع من البرلمانيه والتوافقية وشبه الرئاسية، مما يجعل من نظامنا الجمهوري اللبناني الديمقراطي الطائفي نظاما خاصاً اسمه النظام السياسي اللبناني.
|