الفقرة الأولى: مداخلة رئيس الجلسة د. زهير شكر
رئيس الجمهورية في لبنان بعد الطائف من حاكم مطلق الى شريك
التعديلات الدستورية التي أقرّت عام 1990 تنفيذاً لاتفاقية الطائف تناولت أموراً كثيرة أهمها ما يتعلّق بتكوين السلطات الدستورية وصلاحياتها وبصورة خاصة صلاحيات رئيس الجمهورية التي كانت تحدد طبيعة النظام الدستوري والسياسي اللبناني وليس العكس. فالقاعدة هي في أن تحدّد صلاحيات رئيس الجمهورية من خلال تحديد الدستور لطبيعة النظام الدستوري. مع التعديل الدستوري لعام 1990 حاول المشرّع الدستوري اللبناني ان يعتمد هذه القاعدة.
أولاً: رئيس الجمهورية قبل التعديل: حاكم مطلق الصلاحيات
مما لا جدال فيه ان رئيس الجمهورية اللبنانية كان خلال الجمهورية الأولى (1943-1990) محور استقطاب الحياة الدستورية والسياسية وملكاً غير متوجاً لمدة ست سنوات على الأقل لأن الرغبة في التجديد حكمت أداء نصف رؤساء الجمهورية.
ومع ذلك فإن المدافعين عن النظام الدستوري كانوا يرون ان النظام الذي طبق كان نظاماً جمهورياً، ديمقراطيّاً وبرلمانيّاً باعتبار ان الدستور ينص في المادة 66 على مبدأ مسؤولية الحكومة امام البرلمان، وعلى صلاحية رئيس الجمهورية في حل البرلمان.
وحتى لو سلمنا جدلاً بان النظام الدستوري اللبناني كان يرتكز على دستور 1926، وهذا غير صحيح علميّاً باعتبار أنه كان للنظام ركيزة ثانية هي الصيغة الطائفية التي تعود لنظام القائمقاميتين، والتي كرسها الرئيس إميل إده عام 1936 بتوقيع رئيس الوزراء المسلم على أعمال رئيس الجمهورية، فإننا نستطيع القول أنه وفقاً للدستور اللبناني فإن البرلمانية كانت في لبنان متميزة عن المبادىء المعروفة للنظام البرلماني.
فمن المبادىء الأساسية للنظام البرلماني وجود ثنائية على صعيد السلطة الإجرائية تتمثّل في رئيس دولة يملك ولا يحكم، وحكومة تحكم وتكون مسؤولة عن اعمالها امام البرلمان. وضعية رئيس الدولة في النظم البرلمانية ليست واحدة، فهو في بعضها رمزاً للدولة، وفي البعض الآخر يمارس دوراً تحكيميّاً وفي عدد قليل منها يشارك الحكومة في بعض صلاحياتها. اما في لبنان فإن الدستور (المادة 17) اناط السلطة الإجرائية برئيس الجمهورية بمعاونة الوزراء. وهذا وضع فريد في النظم البرلمانية الحديثة. فالحكومة، كمؤسسة دستورية ذات صلاحيات محددة لم يكن لها وجود في النظام الدستوري اللبناني خارج رئيس الجمهورية. ورئيس الحكومة ايضاً لم يكن صلاحيات دستورية وكيان قانوني خاص به الا من خلال بعض القوانين التي أناطت به بعض الصلاحيات.
ومن خصائص النظام الدستوري اللبناني السابق مسؤولية الحكومة امام رئيس الجمهورية. فالمادة 53 من الدستور كانت تعطي رئيس الجمهورية حق تعيين الوزراء وإقالتهم، في حين ان النظام البرلماني يفترض ان تكون الحكومة مسؤولة امام البرلمان فقط بحيث لا يجوز لرئيس الجمهورية اقالتها طالما تتمتع بثقة البرلمان.ومن قواعد النظام البرلماني ان تعطى السلطة التنفيذية صلاحية حل البرلمان، الا ان الدساتير تنظم ممارسة هذا الحق وتضع ضوابط له، حتى لا يكون سيف الحل مسلطاً باستمرار على البرلمان. أما في لبنان فصلاحية رئيس الجمهورية في حل البرلمان كانت مطلقة، ولا تقيّدها ضوابط سوى موافقة الحكومة، وهي حكماً موافقة شكلية طالما ان الحكومة هي بحالة تبعية دستورية وسياسية تجاه رئيس الدولة.
لهذه الاسباب صنّف بعض الباحثين النظام الدستوري اللبناني في عداد النظم الرئاسية من حيث طبيعته العملية. وهذا التصنيف ايضاً غير سليم، لأن البرلمان في النظام الرئاسي يمارس صلاحياته بمعزل عن رقابة السلطة التنفيذية التي لا يجوز لها حله. أما في لبنان فإن البرلمان كان بحالة تبعية تجاه رئيس الجمهورية. بمعنى آخر فإن الكونغرس الاميركي يتمتّع بصلاحيات تجعله مؤسسة دستورية متوازنة مع رئيس الجمهورية، أما في لبنان فإن البرلمان اللبناني كان عمليّاً مطواعاً ومنفذاً لسياسة رئيس الدولة.
بناء على ما تقدّم، يمكن القول أن النظام الدستوري اللبناني كان نظاماً خاصاً، أي هجيناً يجمع ما بين الرئاسية والبرلمانية الاورليانية والتوافقية والطائفية، الأمر الذي سمح لرئيس الجمهورية بالهيمنة على سلطات الدولة ومؤسساتها ومقدراتها من خلال ما سمّي هيمنة المارونية السياسية داخل مؤسسات الدولة الدستورية والادارية والقضائية والعسكرية والأمنية والمالية.
ثانياً: رئيس الجمهورية بعد الطائف: حَكَم وشريك
شكّلت صلاحيات رئيس الجمهورية جوهر الاصلاحات الدستورية التي أقرّت عام 1990 بعض الصلاحيات التي انتزعت من رئيس الجمهورية أنيطت بمجلس الوزراء، ولا سيما السلطة الإجرائية التي كانت مناطة برئيس الدولة فأصبحت مناطة بمجلس الوزراء، وما يستتبع ذلك من صلاحيات نصّت عليها المادة 65 المعدّلة من الدستور وذلك بهدف اشراك جميع الطوائف السياسية في عملية اتخاذ القرار السياسي وإدارة شؤون الدولة.
بعض صلاحيات رئيس الجمهورية الهامة انتقلت الى رئيس مجلس الوزراء الذي خصصت لعرض صلاحياته المادة 64 من الدستور جاعلة منه المسؤول الأول في السلطة الإجرائية. فهو المسؤول عن تنفيذ السياسة العامة للحكومة. كما تمّ تكريس استقلاله عن رئيس الجمهورية في إدارة شؤون الحكومة ان لجهة وضع جدول أعمال مجلس الوزراء ام لجهة ترؤس اجتماعاته ودعوته الى الانعقاد، الأمر الذي أدّى الى نقل مركز ورمز الحكم في لبنان من قصر بعبدا الى السرايا الكبير.
ما تبقى من صلاحيات لرئيس الجمهورية فإنه، باستثناء مرسوم تسمية رئيس الحكومة ومرسوم قبول استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة، لا يحق له ممارستها بدون توقيع رئيس الحكومة والوزير او الوزراء المختصين (المادة 54 من الدستور)
هذا الانتقاص الكبير من صلاحيات رئيس الجمهورية أثار الاعتراض عند فئة كبيرة من المسيحيين لأنه إذا كان من المقبول ان يكون رئيس الجمهورية حكماً في نظام ديمقراطي برلماني لا طائفي، فإن اعتباره حكماً رمزياً لأنه لا يملك الصلاحيات التي يتمتّع بها الحكم في ظل نظام قائم على المشاركة الطائفية لا بدّ ان يؤثر سلباً على موقع المسيحيين في ادارة شؤون الدولة.
الدكتور داود الصايغ اعتبر أنه من الناحية القانونية والدستورية الصرف فإن النظام البرلماني اللبناني أصبح أقرب الى النظام الواحدي moniste، المطبّق في بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا والمانيا باعتبار ان رئيس الدولة في نظام الثنائية التنفيذية هو لاعب سياسي وليس متفرجاً سياسياً.
إن قراءة النصوص الدستورية المنظمة لصلاحيات رئيس الجمهورية تفرض علينا التحفّظ على هذا الرأي وعلى تصنيف طبيعة السلطة التنفيذية في لبنان، لأن بعض النصوص ما زالت تعطي رئيس الجمهورية صلاحيات تجعل منه قطباً دستورياً ومؤثراً ومنها على الأخص:
1- الفقرة الرابعة من المادة 53 من الدستور التي تنصّ على ان رئيس الجمهورية "يصدر بالاتفاق مع رئيس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة...." فرئيس الحكومة المكلّف، وايّا كان حجم الأكثرية النيابية التي سمته، هو من الناحية الدستورية بحاجة الى التوافق مع رئيس الجمهورية حول تشكيل الحكومة خاصة عندما تكون الاكثرية التي سمتّه ضعيفة، او عندما يواجه الرئيس المكلّف صعوبات التأليف الناجمة عن تعدّد وتنوّع انتماءات الكتل البرلمانية، وعن وجود عدد لا بأس به من النواب المستقلين.
2- أناطت المادة 52 من الدستور صلاحية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها برئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة.
3- تعطي المادة 55 من الدستور رئيس الجمهورية الحق في الطلب الى مجلس الوزراء حلّ مجلس النواب قبل انتهاء عهد النيابة، وذلك في حالات محددة وصعبة التحقق.
4- حق رئيس الجمهورية بموجب المادة 57 من الدستور بطلب اعادة النظر في القانون مرّة واحدة بعد اطلاع مجلس الوزراء.
5- إن وضع مشاريع القوانين المعجلة موضع التنفيذ اذا ما توفرت فيها الشروط الدستورية وكذلك اعتبار مشروع الموازنة مرعياً ومعمولاً به يرتبط فيما خصّ المادة 58 بمبادرة من رئيس الجمهورية، وموافقة مجلس الوزراء، وفيما خصّ المادة 86 بصدور مرسوم عن رئيس الجمهورية بناء على قرار صادر عن مجلس الوزراء.
6- صلاحية رئيس الجمهورية في فتح دورات استثنائية وفي تأجيل انعقاد دورة المجلس العادية الى أمد لا يتجاوز شهراً واحداً.
فعلى ضوء ما تقدّم اعلاه، وعلى ضوء توزيع الدستور للسلطة الاجرائية بين كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ومجلس الوزراء، يمكننا القول أن الدستور اعتمد:
• احياناً الثنائية التنفيذية المتساوية بين رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء في الأمور والقضايا التي تتوقف ممارستها من قبل مجلس الوزراء على مبادرة رئيس الدولة وبين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء في ما خصّ بعض الصلاحيات.
• أحياناً الثنائية التنفيذية اللامتساوية لمصلحة رئيس مجلس الوزراء والحكومة في ممارسة أغلب الصلاحيات المناطة بمجلس الوزراء، والتي لا يملك حيالها رئيس الدولة إلا صلاحية اعتراض مؤقت.
ثالثاً: توضيح النصوص وتحديد المقصود "بمقررات" رئيس الجمهورية
بالرغم من مرور ما يقارب الربع قرن على إقرار التعديلات الدستورية ما زالت الصلاحيات المناطة بمؤسسات السلطة التنفيذية الثلاثة (رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة، مجلس الوزراء) متشابكة وغير محددة تحديداً دقيقاً. والسبب في ذلك عدم تعديل القوانين المرعية الإجراء المنظمة لصلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ومجلس الوزراء والوزراء لكي تصبح النصوص القانونية متلائمة مع النصوص الدستورية الجديدة، وخاصةً المادتين 17 و 66، علماً أن بعض النصوص الدستورية تمّ العمل بموجبها بالرغم من وجود قوانين متعارضة معها. فرئيس الحكومة هو الذي يدعو مجلس الوزراء للانعقاد في حين ان القانون ما زال يعطي هذه الصلاحية لرئيس الجمهورية. وقرارات مجلس الوزراء نافذة إذا ما أكّد عليها بعد ردّها من قبل رئيس الجمهورية وامتنع عن إصدارها وفقاً للنصّ الدستوري واجتهاد مجلس شورى الدولة بينما تعطي القوانين رئيس الجمهورية دوراً أساسيّاً في إقرارها وإصدارها. وعلى سبيل المثال يعطي الدستور مجلس الوزراء صلاحية تعيين جميع الموظفين بينما يعطي قانون الموظفين هذه الصلاحية لرئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس الوزراء بالنسبة لوظائف الفئة الاولى وبموجب مرسوم عادي فيما خصّ بقية فئات الموظفين. وتحت حجة قانونية واهية، واستناداً لقانون الموظفين، ما زال ترفيع الموظف من الفئة الثالثة الى الفئة الثانية، وهي من الفئات العليا في الوظيفة العامة يتم بموجب مرسوم عادي باعتبار ان الترفيع ليس تعييناً، في حين ان تعيين موظف في الفئة الخامسة يحتاج الى قرار مجلس الوزراء مع ما يترتب على الترفيع من صلاحيات هي أوسع وأهم بكثير من صلاحيات موظفي الفئات الأولى.
السبب الأساسي الثاني هو في المفهوم الجديد الذي يجب ان يعطي لعبارة "مقررات رئيس الجمهورية" وبالتالي في ضرورة التمييز بين ثلاثة أنواع من المراسيم بعد أن اصبحت السلطة الإجرائية مناطة بمجلس الوزراء.
1- المراسيم الصادرة عن رئيس الجمهورية في إطار الصلاحيات الدستورية المناطة به بموجب بعض مواد الدستور والتي هي "مقررات" والتي تحتاج الى التوقيع الوزاري الإضافي.
2- المراسيم الصادرة عن رئيس الجمهورية بصفته التحكيمية وبصفته رئيس الدولة (مرسوم إصدار القانون ومرسوم رد القانون) وكذلك مرسوم تسمية رئيس مجلس الوزراء ومرسوم قبول استقالة الحكومة والتي لا تحتاج الى التوقيع الوزاري الإضافي.
3- المراسيم الإعلانية الصادرة لوضع غالبية مقررات مجلس الوزراء موضع التنفيذ. وهي أيضاً لا تحتاج الى التوقيع الوزاري الإضافي. وهي من المسائل التي تمّ التركيز عليها للإشارة الى القيود التي وضعت على رئيس الجمهورية بحيث أنه ملزم بالتوقيع على قرار مجلس الوزراء ضمن مهلة 15 يوماً في حين ان رئيس الحكومة او الوزير غير ملزم بمدّة محدّدة.
وفقاً للتفسير الدستوري السليم فإن مهلة الاعتراض المعطاة لرئيس الجمهورية هي امتياز رئاسي خصّه به الدستور دون رئيس الحكومة او الوزراء. هذه الفئة من المراسيم ليست جوهرية لصحة ونفاذ قرار مجلس الوزراء. فهي مجرد وسيلة للإعلان عن القرار وتبليغه الى الجهات المختصة. لذلك فإن صياغتها وحيثياتها يجب ان تعدّل ليحذف منها كل ما يفيد أن رئيس الجمهورية يمارس إحدى الصلاحيات المناطة به بموجب الدستور.
ولما كانت هذه المراسيم إعلانية وليست انشائية لأنها لا تنشىء الحق أو الموضوع الذي قرره مجلس الوزراء بل تعلن عنه فقط فهي لا تحتاج الى التوقيع الوزاري الإضافي.
أخيراً لا بدّ من الإشارة الى ان ممارسة رئيس الجمهورية لصلاحياته ودوره في القرار السياسي لا يرتبط بالنصوص فقط بل، في ظل الظروف المعقّدة الخاصة بتركيبة المجتمع اللبناني وتناقضاته الطائفية والمذهبية وخلال المرحلة الانتقالية التي تحكمها الديمقراطية التوافقية، بالتوازنات والتحالفات الطائفية- السياسية المتغيرة باستمرار وبشخصيته وزعامته الشعبية.
|