الفقرة الرابعة: مداخلة د. طوني عطاالله
صلاحيات رئيس الجمهورية منصوص عنها في اتفاق الطائف والدستور
وليست موجودة في إتفاق الدوحة
عندما طُرح موضوع المؤتمر حول صلاحيات رئاسة الجمهورية وبدأت الاجتماعات والتحضيرات لتنظيمه، أثرت في أحد اللقاءات مشكلة معالجة بعض الدستوريين لصلاحيات رئاسة الجمهورية بعد اتفاق الطائف من منطلق من ربح في هذا الإتفاق ومن خسر، بالإضافة إلى مختلف أشكال النعوت والتفسيرات التي تندرج في إطار ثقافة انتصارية لا تعزز شرعية النظام في لبنان، ولا مفهوم المشاركة ولا الاستقرار والسلم الأهلي عامةً. فلبنان لا يقوم وينهض إلا على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، وبين الأطراف اللبنانيين ما من رابح وما من خاسر، فالجميع إما يربحون معاً أو يغرقون معاً.
طرحت آنذاك فكرة الخروج من مأزق تفسيرات تظهر ممارسات مبالغة إلى حدودها القصوى ومفادها أن تضاف مراكز ووظائف وصلاحيات لطائفة من هنا ولطائفة من هناك، وتسلخ صلاحيات من هنا وصلاحيات من هناك لإرضاء الطوائف في المشاركة. وكنت كلما استمعت إلى خطاب أو قرأت دراسة من هذا النمط أصاب شخصياً باليأس والاحباط.
المعضلة الكبرى أن هذه التفسيرات تحول المفهوم العلمي لأنظمة المشاركة في السلطة إلى محاصصة تشرذم السلطة بينما يحتاج النظام اللبناني إلى إعادة بناء السلطة وتقويتها. انه تطييف إضافي للنظام بإسم إلغاء الطائفية فيصبح النظام أكثر جموداً وامتيازات بإسم إلغاء الامتيازات بينما البلد بحاجة إلى مؤسسات ورؤساء يرمزون إلى وحدة الوطن والى سلطة مركزية فاعلة تجابه تحديات انتقال النار من المنطقة إلى لبنان، وتكبح الفتنة بين الطوائف وشهوات الهيمنة لديها مثل تعاونها مع أو استعانتها بقوى خارجية "لتكنيس" طوائف الأخرى، وإلى ما هناك من تحديات المرحلة الراهنة.
لماذا هذه المقدمة؟
لأنه في الخامس والعشرين من أيار 2014 تحل الذكرى السنوية السادسة لانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وسط ظروف المرحلة الراهنة التي تتسم بالدقة والصعوبة بسبب وجود عوائق تواجه إعادة تكوين السلطات الحكومية في لبنان على كافة المستويات، من رئاسة الجمهورية إلى تشكيل الحكومة، إلى انتخاب مجلس نيابي جديد، وملء الشواغر في وظائف الفئة الأولى وسائر المناصب الإدارية والأمنية...
وعشية هذه الذكرى، ما من شك بأن المناخ العام السائد في لبنان يهدد بزعزعة الثقة بمستقبل الوضع اللبناني، الذي يفيده بقوة العمل على أصعدة عدّة لها أبعاد دستورية هامة، وهي:
1- الحاجة إلى رفع معنويات الشعب اللبناني (طمأنة الناس في الوضع الراهن هي فعل دستوري أيضاً).
2- تعزيز المناعة الداخلية من خلال تنمية الدفاعات الإجتماعية في لبنان اليوم.
3- مقاومة عوامل التفكك والفتن وزعزعة الإستقرار والضغوط والإختراقات الخارجية.
4- الحفاظ على الثوابت اللبنانية الميثاقية، وإستعادة قيم الجمهورية.
هذه الركائز الأربعة هي الأركان الأساسية الداعمة للبنان حر مستقر ومزدهر. وثمة حاجة تالياً إلى بناء الرموز القوية، لأن الدولة تكون قوية برموزها، وفي طليعتها رئاسة الجمهورية. فالعمل المؤسساتي يولّد الثقة، بينما واقع المؤسسات اليوم محزن ومحبط. إن أمراض الزبائينة والتبعية، وكذلك البنيات الذهنية المتصفة بالعداء للقانون، متفشية في الأوساط السياسية والإدارية والشعبية... ويستغل المتلاعبون الأوضاع الإقتصادية الإجتماعية والمعيشية، وسط تنامي موجات التعصب والتكفير، لتغذية الفتنة لا الى معالجة شؤون الناس. ويُتخذ الناس وسيلة وأدوات للصراع، في حين أن المواطن اللبناني بحاجة إلى إستنهاض قدراته، ووعيه بمخاطر تسييس حقوقه الحياتية اليومية المشروعة ومصالحه المشتركة.
تعزيزاً لدور المؤسسات في لبنان تتجه الأنظار إلى رئاسة الجمهورية من أجل ممارسة دورها كاملاً، حسب المادة 49 الجديدة من الدستور اللبناني، في "السهر على احترام الدستور". يقتضي تعميم مفهوم الدور المتجدد لرئاسة الجمهورية الذي يعلو على الصلاحيات، في حين أن الذهنية لدى أوساط مسيحية ما زالت متوقفة عند الايديولوجيات السائدة قبل وثيقة الوفاق الوطني- الطائف والتعديلات الدستورية. بالمقابل فإن في الأوساط الإسلامية من لا يزال متوقفاً عند ما انتزع من صلاحيات الرئاسة بعد الطائف ولمصلحة من.
من الترتيبات الظرفية التي حملها إتفاق الدوحة ولا يمكن أن تتحول تقليداً، إعطاء رئيس الجمهورية بموجب إتفاق الدوحة عدداً محدوداً من المقاعد الوزارية (مثلاً ثلاثة مقاعد لتعيين وزراء) يختارهم بنفسه. في وقتٍ كان العرف المعمول به في لبنان، كما النص الدستوري، أن يختار رئيسا الجمهورية والحكومة الوزراء في إستشارات تجرى مع النواب والكتل النيابية. وقد ساهم إتفاق الدوحة ظرفياً في جعل سلطة كلٍ من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة محدودة في إختيار الوزراء وخلافاً لمنطق اتفاق الطائف والدستور اللبناني المعدّل بموجبه.
شكّل اتفاق الدوحة اتفاقاً مرحلياً للخروج من الأزمة إثر أحداث 7 أيار 2008، وقد انتهت مفاعيله في 7 حزيران 2009 تاريخ إجراء الانتخابات النيابية. الطائف هو النص المرجعي الذي يتعيّن العودة إليه اليوم وليس اتفاق الدوحة. كان اتفاق الدوحة بمثابة اتفاق ظرفي ومخرجاً من أزمة خطيرة، وينبغي ألا يتحوّل مدخلاً إلى أزمة وطنية أخطر. ولا يصح أن يكون مرجعاً يُستند إليه في تكوين السلطة التنفيذية اليوم. جاء في اتفاق الدوحة نفسه العبارة التالية: "هذا هو الأسلوب الأمثل من الناحية الدستورية لانتخاب الرئيس في هذه الظروف الاستثنائية".
أُسس تسوية الدوحة ليست هي ذاتها التي تضمنها اتفاق الطائف عام 1989 ولا تتناقض معها، بل على العكس نص إتفاق الدوحة على مرجعية إتفاق الطائف وفي إنسجام تام معه. ينص إتفاق الدوحة على ثلاث مرجعيات: العيش المشترك (الميثاق الوطني) والسلم الأهلي، الدستور، وإتفاق الطائف. لا يرقى اتفاق الدوحة إلى مستوى قوة النص الملزم الوارد في الدستور، ولا ينطوي هذا الإتفاق تالياً على أي تعديل لبنود الدستور.
الممارسة السياسية والمصطلحات والخطاب المتداول لم تعد تحتمل المعاني الرائجة قبل أو بعد التوقيع على وثيقة الدوحة، وطيلة مرحلة سريان مفاعيلها، وما بعد انتهاء هذه المفاعيل.
إن الدستور لا يحدد كوتا معينة لرئاسة الجمهورية في تشكيل الحكومة، بل إحترام المناصفة في تأليف الحكومات بين المسيحيين والمسلمين ضماناً للمشاركة الديمقراطية. وأي محاصصة بين القوى السياسية والكتل النيابية تبقى مجرّد إجراء سياسي مرحلي تدخل في صلب الحياة وقواعد اللعبة السياسية الديمقراطية.
بموجب الدستور، يرمز رئيس الجمهورية إلى وحدة الدولة، وله مهمة أساسية في حماية الدستور، والإستقلال والسيادة الوطنية. تنص المادة 49 من الدستور بأن: "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور. يرأس المجلس الأعلى للدفاع وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء".
يتبيّن أن وظيفة رئيس الجمهورية الجديدة بعد التعديلات التي أُدخلت على المادة 49 من الدستور هي في اعتباره الحامي والحارس الأول لمبدأ الشرعية الدستورية والقانونية. إنها وظيفة عظمى، ورئاسة غير فخرية، تتخطى في آن: دوره التحكيمي واعتباره كحَكَم للجميع، والصلاحيات الصغيرة لأنها الأساس الشرعي للصلاحيات وممارستها. يعني ذلك أن صلاحية رئيس الجمهورية هي فوق الصلاحيات وتنازعها وتقاسمها، بل هي بعينها القيادة المعنوية للبلد. إن الصلاحيات الرئاسية لرئاسة الجمهورية تمليها ضرورة توفر رأس للسلطة، لا من منطلق تفوق طائفة على أخرى أو الأقدمية التاريخية أو صفاء الولاء، بل من منطلقات أخرى تفرضها مقتضيات السلطة.
مع المادة 49 الجديدة، فإن الرئيس الجديد لا ينتزع صلاحيات من أي أقلية ولا يسمح بانتزاعها من أحد، بل هو الضامن والحامي لممارستها. وهي وظيفة خصَّ بها الدستور رئيس الجمهورية واستثنى سائر السلطات الحكومية من تأدية القسم الدستوري. أما البديل الآخر البالغ الكلفة في التوازن فهو تحويل رئيس الجمهورية إلى رئيس فخري. في بعض مراحل اشتداد صراعات الفتنة تساءل البعض: أين دور رئيس الجمهوية؟
دور رئيس الجمهورية في "السهر على احترام الدستور" هو دور يعلو على "الصلاحيات" وتنازعها، ورد في الدستور اللبناني المعدّل في المواد التالية:
- حق رئيس الجمهورية في مراجعة المجلس الدستوري في ما يتعلق بمراقبة دستورية القوانين (المادة 19).
- حلفه اليمين الدستورية (المادة 50).
- حقه بتوجيه رسائل إلى مجلس النواب عندما تقتضي الضرورة (المادة 53-10).
- حق الطلب إلى مجلس الوزراء إعادة النظر في أي قرار من القرارات التي يتخذها المجلس خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ إيداعه رئاسة الجمهورية (المادة 56).
- حق طلب إعادة النظر في القانون مرة واحدة ضمن المهلة المحددة لإصداره ولا يجوز أن يرفض طلبه. وعليه "عندما يستعمل الرئيس حقه هذا يصبح في حل من إصدار القانون إلى أن يوافق المجلس بعد مناقشة أخرى في شأنه وإقراره بالغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً (المادة 57).
إن تعزيز دور رئاسة الجمهورية خاصةً من خلال الصلاحيات المشار إليها، وتعزيز دور المؤسسات الدستورية عامةً، يعني أن اللبنانيين بدأوا بالتعلّم من تاريخهم العريق وباستخلاص فلسفة وطنية تدعم إستقلالهم ومقاومتهم وصمودهم واستقرار بلدهم والتضامن بينهم، وأنهم عدلوا عن المجازفة بمصير بلدهم من خلال إعادة إنتاج صراعات وتعبئة نزاعية وعدم إدراك بالمخاطر الخارجية ونبذوا فكرة إستعادة لبنان الساحة. إذاك تتوطد حكمة لبنانية لدى كل اللبنانيين كثمرة إتعاظ واختبار تاريخي لبناني طويل.
من هنا يتعيّن على الانتليجنسيا اللبنانية الخروج من خطاب نزاعي مبرمج لم يعد يتلائم مع التجربة اللبنانية المعاشة اليوم ولصالح الجيل الجديد. إن العودة إلى جذور وثيقة الوفاق الوطني وميثاق الطائف هي بالغة الفائدة في سبيل بناء ثقافة دستورية لبنانية لا تقتصر على تحليل النصوص في شكل مجرّد عن أبعادها التاريخية ومخاضها العسير وما تطلبته من مخيلة دستورية قد يعجز عنها العديد من الحقوقيين والخبراء الأجانب.
|