الفقرة الخامسة: مداخلة د. موسى ابراهيم
صلاحيات رئيس الجمهورية في الدستور والممارسة
على أثر الأزمات السياسية المتلاحقة التي تعرض لها النظام السياسي اللبناني بعد إقرار دستور الطائف حتى يومنا هذا وخاصة بعد الأحداث الكبرى التي تجري في المنطقة وما يعكسه ذلك من أخطار على الساحة اللبنانية، راح البعض في لبنان يطالب بإعادة النظر بصلاحيات رئيس الجمهورية. ولكن السؤال هل هي لتحسين عمل المؤسسات داخل الدولة وتفعيل نظام الحكم، أم أنها لإعادة إرضاء مطالب المسيحيين الذين وجدوا في تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية إنتقاصاً من دورهم؟
إن الحديث اليوم عن إعادة بعض الصلاحيات إلى رئيس الجمهورية، يجب أن يكون من أجل تمكينه من لعب دور أساسي في حسن سير عمل المؤسسات داخل الدولة وليس ضماناً فقط لوجود الطائفة التي يمثلها في السلطة.
إن المعادلات الطائفية تتحكم في تركيبة النظام السياسي اللبناني بحيث تحولت الرئاسات إلى محميات للطوائف، فأي نقد لأداء رئيس ما صار وكأنه مساً بالطائفة التي ينتمي إليها، فكيف إذا ما طالب البعض بإصلاح أو إضافة مواد للدستور لتلافي خلل ما ظهر من خلال تطبيق بعض مواد الدستور .
إن مكمن الخلل إذا هو في البعد الطائفي للنظام السياسي اللبناني نصاً وممارسة الذي يقف حائلاً دون تطويره وتحديثه وتطبيقه بالشكل الصحيح الذي يجب أن يكون فيه.
لقد شكلت الطائفية السياسية في لبنان وسيلة للإقطاع السياسي لضمان الحفاظ على مصالحه وإمتيازاته، كما شكلت عائقاً كبيراً في العمل على قيام دولة القانون والمؤسسات. إن إستمرار الطائفية السياسية لا يعود إلى الدستور بحد ذاته سواء أكان ذلك في دستور عام 1926 الذي اعتبرها مرحلة مؤقتة أو في دستور الطائف عام 1990 الذي إعتبرها مرحلة إنتقالية، وهذا يعني أن الدستور اللبناني لم ينص عليها بإعتبارها حالة دائمة الوجود، بل إلى العقلية السياسية التي كانت سائده وما تزال عند الحكام هي التي رأت في إستمرار النظام الطائفي داعماً أساسياً لإستمرار هيمنتهم على الدولة حماية لمصالحهم بحجة تمثيلهم للطوائف.
كان موضوع المشاركة وما زال أحد أبرز مواضيع النزاع السياسي في لبنان، والمقصود المشاركة في الحكم بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وهذا الموضوع متداخل مع مسألة الطائفية.
في السبعينات من القرن الماضي أثيرت هذه المسألة بصورة كبيرة، عندما طالب المسلمون بالمشاركة بشكل متساو مع المسيحيين في إدارة شؤون البلاد، أي في الحكم الفعلي وهذا يقودنا إلى مجموعة أسئلة أهمها: ما هي صلاحيات كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وهل تتقيد السلطة التنفيذية في ممارستها للحكم بنص دستور 1926 الحرفي أم بروح الميثاق الوطني؟ هل يشارك المسلمون بواسطة ممثليهم في الحكم بإدارة البلاد بصورة فعليه أم لا؟
أما بعد الطائف فإن مسألة المشاركة إتخذت وجهاً آخر، إذ راح فريق من اللبنانيين ذا أغلبية مسيحيه يطالب بالمشاركة الفعليه في الحكم، إذ إعتبر أن إتفاق الطائف سلب صلاحيات مهمه كان يتمتع بها رئيس الجمهورية وأعطاها لرئيس الحكومة وأصبح دور رئيس الجمهورية شكلياً.
وهذا يستتبع جملة من الأسئلة من أهمها: هل أن دستور ما بعد الطائف قد أخل بمبدأ المشاركة؟ أم أن هناك خللاً في النص أم في التطبيق؟
أولاً: صلاحيات رئيس الجمهورية قبل الطائف
1- على صعيد الدستور:
إن دستور 1926 منح رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة جداً:
- نصت المادة 17 منه، على إناطة "السلطة الإجرائية برئيس الجمهورية، وهو يتولاها بمعاونة الوزراء.." كما نصت المادة 53 على أن "رئيس الجمهورية يعين الوزراء، ويسمي منهم رئيساً، ويقيلهم..."
- إن رئيس الجمهورية هو الذي يقبض على السلطة الإجرائية ويوجه نشاط الحكومة، فهو الذي يعيّن ويقيل الوزراء بما فيهم رئيسهم مما يجعل الحكومة مسؤولة تجاهه كما هي مسؤولة أيضاً تجاه المجلس، وهذه المسؤولية ليست نظرية محض، ففي عام 1952 أقال الرئيس الشيخ بشاره الخوري رئيس الوزراء سامي الصلح على أثر إتهامه له بالإثراء غير المشروع، كما أقال الرئيس سليمان فرنجيه عام 1972 الوزير هنري إده.
- يترأس رئيس الجمهورية مجلس الوزراء ويشترك في المناقشة، ويمارس السلطة التنظيمية. وقد جاء في المادة 51 أن "رئيس الجمهورية ينشر القوانين بعد أن يكون وافق عليها المجلس ويؤمن تنفيذها بما له من السلطة التنظيمية وليس له أن يدخل تعديلاً عليها وأن يعفي أحداً من التقيد بأحكامها وله حق العفو الخاص... "
- له "الحق بأن يطلب إعادة النظر في القانون مرة واحدة في خلال المهلة المعينة لنشره ولا يجوز أن يرفض طلبه. وعندما يستعمل الرئيس حقه هذا يصبح في حل من نشر القانون إلى أن يوافق عليه المجلس بعد مناقشة أخرى في شأنه وإقراره بالغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً" (المادة 57).
- منح دستور 1926 رئيس الجمهورية حق إقتراح القوانين (المادة 18).
- كما منحه حق إصدار مشروع القانون المنفذ بالمرسوم، بعد موافقة مجلس الوزراء، وذلك تنفيذاً لكل مشروع تحيله الحكومة إلى مجلس النواب وتعطيه صفة الإستعجال، ولا يبت به خلال أربعين يوماً من طرحه على المجلس (المادة 58). كما منحه حق دعوة المجلس لدورة إستثنائية تستمر لغاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة، إذا لم يبت في شأن مشروع الموازنة قبل الإنتهاء من العقد المعين لدرسه. وإذا إنقضت الدورة الإستثنائية هذه ولم يب نهائياً في مشروع الموارنة، فلرئيس الجمهورية أن يضع مرسوماً، بموافقة مجلس الوزراء، يجعل بموجبه المشروع المذكور بالشكل الذي تقدم به إلى المجلس مرعياً ومعمولاً به، على أنه لا يجوز لرئيس الجمهورية أن يستعمل هذا الحق إلا إذا كان مشروع الموازنة قد طرح على المجلس قبل بداية عقده بخمسة عشر يوماً على الأقل (المادة 86).
- أعطى الدستور أيضاً رئيس الجمهورية صلاحية تأجيل إنعقاد المجلس إلى أمد لا يتجاوز شهراً واحداً، على أن لا يفعل ذلك مرتين في العقد الواحد (المادة 59)
- منحه حق إتخاذ قرار معلل بموافقة مجلس الوزراء بحل مجلس النواب قبل إنتهاء عهد النيابة (المادة 55)، وحق إصدار عفو خاص، وحق إيلاء الموظفين مناصب الدولة ما خلا التي يحدد القانون شكل التعيين لها على وجه آخر (المادة 53)، وكذلك منحه صلاحيات تولي المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها (المادة 52).
إن المادة 17 من الدستور تنص على أن رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية والوزراء ليسوا إلا معاونين له في ممارسة هذه السلطة، أما في النظام البرلماني، فالسلطة الإجرائية هي من صلاحية الوزارة التي تعتبر المحور الرئيسي في ميدان البرلمانية الحديثة، الأمر الذي يبعد النظام اللبناني عن النظام البرلماني، فرئيس الجمهورية في لبنان هو صاحب السلطة الإجرائية الحقيقي، يمارسها ويباشرها على نحو فعلي في جميع الميادين، وهذا ما دفع حميد فرنجية بأن يقول "إن لبنان لديه برلمان ودستور، وأن شعبه عربي أصيل، ولكن مع كل هذا فالحكم فيه يكاد يكون ديكتاتورياً، يتركز في وجهة واحدة إتخذت من ضعف الحكومة كل مقوماتها.
فمنذ صدور الدستور اللبناني الأول عام 1926، أعطي رئيس الجمهورية مركزاً خاصاً في النظام اللبناني من خلال النصوص، بحيث كان الدعامة الثابتة في السلطة الإجرائية بل هو سيدها، ولا تستطيع ممارسة الحكم إلا تحت إشرافه المستمر، ولم يقتصر الأمر على النصوص بل ساهم الواقع بتدعيم مكانة وسلطة رئيس الجمهورية بحيث "أن رئيس الجمهورية في لبنان المستقل بات البديل للمفوض السامي الفرنسي، إذ إنتقلت إليه كل صلاحيات هذا المفوض عن طريق النصوص الدستورية أو عن طريق العرف والتقليد وممارسة الحكم".
وقد سعى الإنتداب الفرنسي الذي أشرف على وضع الدستور إلى تأمين أرجحية للرئيس على باقي الهيئات، وكان شديد الحرص على توطيد صلاحياته ومنحه مركزاً مميزاً غير مألوف في نظام برلماني، وهذا ما أعطى تفسيراً تاريخياً يعود إلى عهد الإنتداب، "فالمنتدب الذي شارك بصورة رئيسية في عملية وضع الدستور، حرص على توسيع وتأكيد صلاحيات رئيس الجمهورية وجعله الهيئة الأصلية لإحتواء السلطة الإجرائية معتبراً أن في ذلك محافظة على هيمنة المفوض السامي والدولة المنتدبة على المقدرات اللبنانية، بإعتبار أن السيطرة على شخص واحد والتعاون معه وتدجينه أهون سبيلاً من تدجين الوزارة المؤلفة من عدة شخصيات متباينة الإتجاهات والأهواء وعرضة للتغييرات.
يعتبر الدكتور أحمد سرحال أن كل هذه الحجج لا تعكس الحقيقة كاملة لأن الوضع إستمر على حالة بل إزداد شدة في عهد الإستقلال لصالح رئيس الجمهورية، ويعود ذلك إلى "العقلية اللبنانية والعربية الشرقية التي لا تستسيغ الإزدواج في السلطان وتوزيع الأدوار بين رمزي صوري ممنوح لرئيس الدولة ودور فعلي تضطلع به الحكومة الحائزة على ثقتين مختلفتين: ثقة رئيس البلاد وثقة المجلس النيابي، أضف إلى ضعف مراكز السلطة الأخرى لا سيما البرلمان وإحجامه عن لعب الدور الذي يمكنه أن يلعبه لو إمتلك التصميم الكافي كما كان حال الجمعية الوطنية في عهد الجمهورية الثالثة في فرنسا".
إن دستور 1926 الذي منح هذه الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية، بقي صامتاً بالنسبة لصلاحيات رئيس الوزراء، فبينما تكثر المواد الدستورية التي تتحدث عن صلاحيات رئيس الجمهورية، تكاد تنعدم النصوص الدستورية التي تتحدث عن صلاحيات رئيس الحكومة، والإشارة إلى رئيس الوزراء في النصوص الدستورية تؤكد وضعه في حالة تبعية لرئيس الجمهورية. فقد ورد في المادة (53) "إن رئيس الجمهورية يعين الوزراء ويسمي منهم رئيساً، ويقيلهم... "هذا النص لا يحدد أية شروط لإختيار رئيس الوزراء ولا لإقالته، ولا يمنحه أي وضع مميز داخل السلطة الإجرائية، ويؤكد ذلك مضمون المادة (66) التي نصت على ما يلي: "يتحمل الوزراء إجمالياً تجاه المجلس تبعة سياسة الحكومة العامة، ويتحملون إفرادياً تبعة أفعالهم الشخصية، ويعد بيان خطة الحكومة ويعرض على المجلس بواسطة رئيس الوزراء أو وزير يقوم مقامه".
فرئيس الوزراء ليس سوى وزير كسائر الوزراء، يعين مثلهم وفي المرسوم نفسه، فهو الأول بينهم "Primus inter pares" والدستور لا يمنحه صلاحيات خاصة، بينما المادة (60) تنص على أنه "لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلا عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى".
من هنا تبدأ كفة الميزان في الميل لصالح رئيس الجمهورية، إذ أن رئاسة الجمهورية ورغم كونها أقوى مركز في لبنان، لا تعتبر سلطة مسؤولة، هذا الوضع يثير النزاعات لكونه مخالفاً لمنطق الأشياء، وتأتي المادة (54) التي تنص على أن "مقررات رئيس الجمهورية يجب أن يشترك معه في التوقيع عليها الوزير أو الوزراء المختصون ما خلا توليه الوزراء وإقالتهم"، لتزيد في إختلال كفة الميزان لمصلحة رئيس الجمهورية، فالقسم الأول من هذه المادة يمنح الوزراء نعمة مشاركة رئيس الجمهورية في الحكم من خلال إشراكهم معه في التوقيع على مقرراته، أما القسم الثاني من هذه المادة فيمكن الرئيس من التحكم بالوزراء والمستوزين.
وهكذا، بإمكان الوزير المختص، من ناحية مثالية، أن يمتنع عن التوقيع إذا لم يكن مقتنعاً بمضمون القرار، إلا أنه ومن الناحية الواقعية، فإن إمتناع الوزير عن توقيع قرار يرضى عنه رئيس الجمهورية، قد يفقده منصبه لأنه بإمكان الرئيس إقالة الوزير "المشاكس".
إن مجلس الوزراء لا قيمة لإجتماعاته ما لم يكن رئيس الجمهورية حاضراً لجلساته، التي تصبح بغيابه جلسات للمجلس الوزاري، الذي ليس له أية صفة تقريرية بل تنحصر مهمته بتحضير المقررات التي يجب أن تتخذ في الإجتماعات التي يترأسها رئيس الجمهورية.
وكثيراً ما يمتد دور رئيس الجمهورية إلى المبادرة لعقد إجتماعات عمل إدارية مع كبار الموظفين في الوزارات والإدارات العامة والمصالح المستقلة، وله الدور الفاعل في وضع السياسة العامة سواء على مستوى البلاد أم على مستوى الوزارات، بما له، من حضور مميز في الجلسات الوزارية والإدارية.
بإختصار رغم تعديله عدة مرات، كرس الدستور هيمنة رئيس الجمهورية على السلطة التنفيذية، وهذا ما كان له إنعكاسات سلبية على التركيبة الطائفية في لبنان.
2- على صعيد الممارسة ما قبل الطائف:
على صعيد الممارسة، هناك عوامل عززت دور رئيس الجمهورية كما هناك قيود حدت من سلطاته، من العوامل التي عززت صلاحياته على الصعيد العملي نذكر ما يلي:
- إن بقاء رئيس الجمهورية ست سنوات في الحكم يشكل عامل قوة له، وبالمقابل فإن عمر الوزارات كان عادة قصير الأمد، ولذلك فإن تبدل الوزارات يشكل عامل ضعف لرئيس الحكومة، إذاً فالثبات في السلطة يشكل عامل قوة لرئيس الجمهورية والتبدل عامل ضعف لرئيس الحكومة. إن عمر الوزارات في لبنان قصير الأمد، قليل الإنتاج بحيث لا يسمح له بتنفيذ مشروع أو تحقيق فكرة. إذ أن معدل عمر الوزارة في الفترة الممتدة من 1943-1976، كان حوالي ثمانية أشهر، والإستقرار الوزاري كان متدنياً جداً، كما بلغ معدل عمر الحكومة في الفترة 1976-1988 حوالي 24 شهراً . وهو معدل يوحي للوهلة الأولى بتحسن ملحوظ في مستوى الإستقرار الوزاري خلال هذه الفترة. إلا أن الواقع السياسي والإقتصادي والإجتماعي والدستوري الذي عايشه لبنان خلال الحرب الأهلية في تلك الفترة يؤكد بأن ظاهرة الإستقرار الوزاري النسبي، لم تكن إستقراراً وزارياً حقيقياً بقدر ما كانت ترجمة لواقعة الغياب الفعلي للحكم في ظل عدم الإستقرار السياسي حيث كان أمراء الحرب هم سادة الزمان والمكان في تلك الفترة .
وقد تبيّن من الإحصاءات أن تسعة رؤساء وزارات قد شكلوا إثنتي وعشرين وزارة في وقت لم يتغير فيه سوى رئيس جمهورية في حين أن عنصر التغيير والتبديل دائم وظاهر في مركز رئيس الوزراء.
- ومن الأسباب الواقعية التي تعزز وضعية رئيس الجمهورية وتضعف مكانة رئيس الحكومة هو وجود عدة زعماء من طائفة هذا الأخير طامعين بمنصب رئاسة الحكومة. وكانت المنافسة بين هؤلاء الزعماء هي أحد العوامل التي تدفع رئيس الحكومة الجديد إلى التخلي عن مطالب الفئة التي يمثلها في السلطة. وكثيراً ما يقع رئيس الحكومة بين مطرقة إرضاء رئيس الجمهورية وبين سندان طائفته، فكلما إزداد عدد المرشحين لرئاسة الحكومة كلما زادت حرية رئيس الجمهورية في المناورة والإختيار، كما أن من مصلحة رئيس الجمهورية إحداث تغيير دائم في رئاسة الحكومة بهدف تقصير عمر الحكومات لأكثر من سبب- إن عدم مسؤولية رئيس الدولة مقابل المسؤولية الجماعية والفردية لباقي أعضاء الحكومة، كان لها تأثير رئيسي على أدائهم، إضافة إلى ذلك فإن الأصول البرلمانية تقضي بأن تنبثق الحكومة ورئيسها من أغلبية نيابية تستند إليها، وإلى أحزاب سياسية فاعلة في البرلمان وخارجه تؤمن الدعم اللازم للحكومة، كي لا تكون مضطره إلى الهروب من رقابة البرلمان، بإتجاه الحماية التي يمنحها إياها رئيس الجمهورية بما له من سلطات واسعة في مختلف الميادين، الأمر الذي لم يجد له مكاناً في التركيبة اللبنانية، فلا رئيس الحكومة زعيم للأكثرية ولا أكثرية تقف عادة خلف الحكومات، بل إن سلطة رئيس الجمهورية هي الوحيدة القادرة على صناعة الوزراء والوزارات في الواقع.. فقصر عمر الحكومة لا يسمح لرئيسها بالإستقرار، وبالتالي تعزيز دوره ولذلك يبقى رئيس الحكومة يشعر في كل لحظة أن بقاءه في السلطة رهن بإستمرار ثقة رئيس الجمهورية فيه، كما أن قصر عمر الحكومات يسمح لرئيس الجمهورية بإرضاء أكبر نسبة من الشخصيات المنتمية لطائفة رئيس الوزراء وجعلها تدور في فلكه كسباً لرضاه، كما أن التغيير المستمر في الحكومات من شأنه أن يوهم الرأي العام أن الأزمة السياسية التي يتخبط فيها لبنان منذ الإستقلال هي أزمة هامشية ناتجة عن سوء تصرف حكومة معينة، وليست أزمة بنيوية وبالتالي يمكن معالجتها بتغيير الحكومة.
إن ضعف موقع رئيس الوزراء والوزراء، لا يعود فقط إلى الإختلال الحاصل في الصلاحيات لصالح رئيس الجمهورية في النصوص الدستورية، بل يقع في قسم منه على عاتق من تعاقبوا على رئاسة الوزراء في عهود ما قبل إتفاق الطائف، لأنهم لم يحاولوا ترسيخ ممارسة سياسية ودستورية سليمة، بل كان همهم إرضاء رئيس الجمهورية وعدم الإختلاف معه. وبالتالي لم يفكروا بممارسة صلاحياتهم أو مسؤولياتهم في السلطة، كما أن إتساع دائرة الطامحين بالوصول لرئاسة الوزراء أدى إلى تودد هؤلاء لرئيس الجمهورية، لأنه الوحيد الذي يملك سلطة القرار والإختيار فيترتب على هذا الواقع النتائج التالي:
- إن المبادرة والقوة هي بجانب رئيس الجمهورية بالنظر لكونه يملك حق الإختيار من جهة، ولكثرة المسترئسين وتلهفهم على قبول المنصب بأي ثمن ومهما كان باهظاً بالنسبة لطائفتهم من جهة أخرى.
- إن الشخص المختار، مهما كان قوي الشخصية أو قوي الشعبية، يصبح ضعيفاً أمام رئيس الجمهورية بمجرد قبوله شروط الترئيس، لأن مثل هذا القبول يعني التخلي عن أيديولوجية الطائفة التي يفترض فيه، بمفهوم الصيغة، أن يمثلها في الحكم ويسعى جاهداً لتحقيق أهدافها. وينحصر دوره في واحد من المواقف الثلاثة التالية:
_ إما أن يرضخ لمشيئة رئيس الجمهورية ولسياسة أيديولوجيته في السلطة والحكم رضوخاً كاملاً، وهذا ما فعله معظم رؤساء الوزراء منذ سنة 1943.
_ إما أن يتمرد تمرداً جزئياً، وهذا من شأنه أن يخلق أزمة حكم وتوتير أجواء ووضع البلد على عتبة الإنفجار، وهذا ما فعله بعضهم في ظروف معينة.
_ إما أن يستقيل، وهذا ما حصل لمعظمهم، والإستقالة كانت دائماً بمعنى الإقالة. وليس في جميع هذه المواقف أية خدمة لوحدة البلد ومصلحته العليا، أو للإستقرار فيه وللولاء له، أو أية خدمة للطائفة.
خلاصة القول إن خضوع رئيس الوزراء إلى سلطة رئيس الجمهورية هي مسألة ثابتة في لبنان، بحيث لم يسبق أن إستمر رئيس وزراء في لبنان على خلاف مع رئيس الجمهورية.
إن ثقة الجمهورية ضرورية ولا غنى عنها من إجل إستمرار الحكومة في ممارسة السلطة، فقد إستمرت حكومة الرئيس رشيد كرامي التي شكلت عام 1960 طيلة سنتين ونصف في الحكم لأنها حظيت بدعم رئيس الجمهورية فؤاد شهاب. وغالبية الحكومات التي تعاقبت على لبنان منذ فجر الإستقلال، كانت تستقيل عندما تفقد دعم رئيس الجمهورية قبل أن تسقط في المجلس بفعل حجب الثقة عنها. ويبدو أن النواب لا يميلون عادة إلى تأييد حكومة لا تحظى بدعم رئيس الجمهورية لأن مجلس النواب كان مشرذماً بين كتل برلمانية صغيرة، غالباً ما يعمد أعضاؤها إلى طلب ود رئيس الجمهورية. وهذا الواقع، إضافة إلى عدم مسؤولية رئيس الجمهورية سياسياً، يجعله في موقع يمكنه من تأمين أكثرية برلمانية داعمة للحكومة.لكن في أوقات الأزمة السياسية الطائفية تنقلب العلاقة بين رأسي السلطة التنفيذية، فيقوى دور رئيس الحكومة الذي يجرؤ على معارضة رئيس الجمهورية مرتكزاً إلى دعم طائفته ويضعف دور رئيس الجمهورية الذي يتعطل دوره وصلاحياته. حيث تشكل الطائفية السياسية سلاحاً ذو حدين، فهي من جهة تقوي سلطة رئيس الجمهورية في الظروف العادية، ولكنها تؤدي إلى إضعافه في ظروف الأزمات السياسية الطائفية حيث يقوى دور رئيس الحكومة.
ولقد درجت العادة على أن يتعاون رئيس الحكومة مع رئيس الجمهورية دون أن يهتم كثيراً بمسألة المشاركة. ولكن بعد خروجه من الحكم عمد كل رئيس حكومة سابق إلى مهاجمة هيمنة رئيس الجمهورية والمطالبة بتعزيز دور رئيس الحكومة.
3- على صعيد الممارسة:
إذا كان دستور 1926، لم يمنح رئيس الوزراء صلاحيات تمكنه من المشاركة الفعلية في تسيير شؤون الدولة وإتخاذ القرار، فإن العرف المتبع قضى بتوسيع صلاحياته ومشاركته في ممارسة السلطة، على أساس أنه ممثل المسلمين عامة، والسنة خاصة في الحكم. فقد قامت الدولة وفق صيغة الميثاق عام 1943، على توازن طوائفي، إرتكز أساساً على الطائفتين السنية والمارونية مما كرس مشاركة المسلمين في السلطة الإجرائية بواسطة رئيس الوزراء. وهذا التوازن قضى بمنح رئيس الوزراء سلطة فعلية، وأدى بالتالي إلى تقوية موقعه وتقليص أهمية صلاحيات رئيس الجمهورية من الناحية العملية.
فالمراسيم لا تحمل فقط توقيع رئيس الجمهورية والوزير أو الوزراء المختصين إنما أيضاً توقيع رئيس الوزراء، ولا ينفرد رئيس الجمهورية بالتوقيع إلا على مراسيم تعيين رئيس الوزراء وقبول إستقالة الحكومة. وهذا يحقق مشاركة رئيس الحكومة فعلياً في ممارسة السلطة ويعطيه القدرة على حمل رئيس الجمهورية على الأخذ بوجهة نظره في كل القرارات، لأنه له حق ممارسة النقض وتجميد المراسيم من الناحية العملية.
وقد رأى الرئيس سليم الحص أن "في هذا قوة لرئيس الوزراء في المشاركة في الحكم لا يمكن تجاهلها فما من قرار يصدر على مستوى الحكم إلا بموافقته، وبالتالي بمشاركته فلا عذر له إذا وقّع على قرارات لا يرضى عنها، ولا عذر له بقبول قرارات لا يشارك في صنعها.
وهكذا من خلال قدرته على حجب الموافقة على أي قرار، فإنه يتصرف بقوة سلبية واضحة. ومن واجب رئيس الوزراء أن يحول هذه القوة السلبية، وفي إستطاعته أن يفعل، إلى قوة إيجابية فاعلة. فلا يكفي بإستخدامها في الإمتناع عن التوقيع حيث لا يلقى قرار منه قبولاً، وإنما يمكنه أن يمارس مسؤوليته في المبادرة إلى صنع القرار أو المشاركة في صنعه. بعبارة أخرى، إن المشاركة تتحقق إذا قدر رئيس الوزراء قيمة توقيعه، ووعى أهميته".
من ناحية أخرى، تفترض المشاركة تمثيل المسلمين في السلطة الإجرائية برئيس الوزراء، يحظى بتأييد الأوساط الإسلامية وخاصة السنية. وهذا يقود إلى طرح قضية إختيار رئيس الجمهورية للشخصية التي ستتولى تشكيل الحكومة، وعلى الرغم من أن المادة 53 من الدستور تعطي لرئيس الجمهورية الحق في تعيين الوزراء وتسمية واحد منهم رئيساً، إلا أنه خلافاً للدستور نشأ عرف قضى بأن يجري رئيس الجمهورية إستشارات نيابية، تشمل جميع النواب، يصار بعدها إلى تسمية رئيس الوزراء أولاً، من داخل أو من خارج المجلس، ومن ثم يعمد رئيس الوزراء المكلف بدوره إلى إجراء إستشارات نيابية من أجل تأليف الحكومة، ويطلع رئيس الجمهورية على مختلف مراحل الإستشارات، ويشترك معه في إختيار الوزراء وتأليف الحكومة، ولكن في الحقيقة يلعب رئيس الجمهورية الدور الأساسي في عملية التأليف هذه "فرئيس الوزراء المكلف يقوم بدور مهم في الإستشارات النيابية، غير أن هذا الدور يبقى ثانوياً بالنسبة لدور رئيس الجمهورية، فيما أن رئيس الوزراء ينتمي إلى طائفة وليس إلى كتلة برلمانية تشكل أكثرية داخل المجلس، يضطر إلى الحصول على دعم نواب الطوائف الأخرى، وخاصة نواب الطائفة المارونية. وهذا الدعم يوفره له رئيس الجمهورية، الذي يتدخل شخصياً في تأليف الحكومة، وفي منحها ثقة المجلس" .
والذي يؤكد ذلك تصرف النواب أثناء الإستشارات النيابية التي تسبق تسمية رئيس الحكومة، إذ إن غالبية الكتل البرلمانية تترك لرئيس الجمهورية حرية إختيار الشخص المناسب لتولي هذا المنصب، مما أدى في بعض الأحيان إلى تعيين رؤساء حكومات لا يتمتعون بتأييد الأوساط الإسلامية وكان لهذا إنعكاسات خطيرة، خاصة على صعيد الوحدة الوطنية لأنه يتعارض مع مبدأ المشاركة. ففي عام 1957، وعلى أثر إستقالة حكومة الرئيس عبدالله اليافي، إحتجاجاً على سياسة الرئيس كميل شمعون الخارجية، عيّن هذ الأخير الرئيس سامي الصلح رئيساً لحكومة وفر لها دعماً برلمانياً كبيراً، فحظيت بثقة المجلس، غير أن إحتجاجات المسلمين وخاصة السنة تصاعدت، وتردت الأوضاع، وقد أسهم ذلك في نشوب الحرب الأهلية عام 1958. وتكليف الرئيس عبدالله اليافي عام 1966 تشكيل الحكومة بينما كانت الأكثرية النيابية تؤيد تكليف الرشيد رشيد كرامي.
وفي نيسان عام 1973، وعلى أثر إستقالة حكومة الرئيس صائب سلام بسبب الصدامات المسلحة بين الجيش والمقاومة الفلسطينية، عين الرئيس سليمان فرنجية بعد إجراء إستشارات نيابية الدكتور أمين الحافظ رئيساً للحكومة التي تألفت من سبعة عشر وزيراً، بينهم أربعة من الطائفة السنية. وقد أثار الإعلان عن هذه الحكومة إنزعاجاً في بعض الأوساط السياسية والطائفية. فأعلن القادة السنة معارضتهم لها، كما أن الجمعيات الإسلامية بدورها أعلنت أن التمثيل السني في الحكومة مفقود، وأن الوزراء السنة لا يمثلون طائفتهم، ووجه نداء إلى النواب المسلمين يدعوهم إلى حجب الثقة عن الحكومة. وفي 27 نيسان انعقد مؤتمر ضم التنظيمات والجمعيات الإسلامية صدر عنه بيان بإسم اللجنة التنفيذية للجمعيات والتنظيمات الإسلامية طالب بالمشاركة العادلة في الحكم، ودعا الوزراء السنة إلى الإستقالة، وبعد عدة أيام قدم الرئيس الحافظ إستقالة حكومته إلى رئيس الدولة قبل أن تمثل أمام مجلس النواب لنيل الثقة.
وأعيد تكرار ذات الأمر، حيث كلِّف العميد نور الدين الرفاعي في أيار 1975 برئاسة الحكومو ضد إرادة أكثرية النواب. وفي العام 1976 كرر الرئيس الياس سركيس السابقة مع تكليف الدكتور سليم الحص تشكيل الحكومة، وفي هذا الصدد يقول الرئيس الحص إن "الرئيس الراحل الياس سركيس لم يأت بي بعد إجراء مشاورات نيابية منتظمة، ولو فعل لما رشحني أحد من النواب لمجرد أنني لم أكن قد مارست السياسة أو لامستها من قبل. فالحقيقة تبقى قائمة وهي أن تسمية رئيس الوزراء كانت في تلك الحال وليدة إقتناع أو إجتهاد شخصي من رئيس الجمهورية ولم يكن للإرادة النيابية شأن بها".
ونعلّق على هذه الوقائع بالقول أنه لا تستقيم المشاركة بين رئيس حكومة ضعيف، لا صفة تمثيلية فعلية له، ورئيس جمهورية متفرّد في إتخاذ المواقف والقرارات، كما لا يستقيم عمل مؤسسات الحكم في ظل رئيس للجمهورية وآخر للحكومة يريد كل منهما تسيير شؤون الدولة وفق أهوائه الطائفية الخاصة ونزعته الأنانية" . وهنا لا بد أن نشير بأنه ليس مطلق شخص يستطيع أن يتبوأ سدة رئاسة الجمهورية إن لم يكن يحظى بتأييد شريحة إسلامية كبيرة. وهذا مغاير للإنطباع السائد بأن رئيس الجمهورية هو الحاكم الفرد، فهو "لا يستطيع بمفرده إتخاذ أي موقف أو إجراء كأنه يستطيع وحده أن يتكلم بإسم لبنان".
إذ تفترض المشاركة: التعاون والتفاهم بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وأن يتمتع كل منهما بدعم طائفته أولاً، وبتأييد الطوائف الأخرى ثانياً، لأنهما، في ممارستهما للحكم يمثلان الشعب اللبناني بكل طوائفه وفئاته ومناطقه وليس طائفيتهما، على الرغم من أن مبدأ المشاركة وفقاً لصيغة 1943، قضى بأن يكونا من الطائفتين المارونية والسنية. ومن ناحية أخرى، تعني المشاركة ضرورة أخذ مواقف الطوائف من القضايا الأساسية بالإعتبار، والعمل على التوفيق بينها، وهذا لا يتحقق إلا إذا أظهرت الطوائف مرونة في مواقفها، وقدمت مصلحة الوطن على مصالحها وإرتباطاتها الضيقة، معتبرة أن مصالحها كطوائف تتحقق أولاً وآخراً من خلال التوافق الوطني.
لذلك يمكن القول إن مشاركة الطوائف الفعلية في السلطة الإجرائية، تفترض تمثيلها بشخصيات ذات صفة تمثيلية في أوساطها، وتحظى بتأييد الطوائف الأخرى، وتتميز بالإعتدال والرصانة. كما تفترض تعاون الطوائف ووقوفها بجانب القرارات الحكومية التي تأتي كثمرة لهذا التعاون، ولا بد من هذه المشاركة من أجل الحفاظ على التوازن الطائفي.
ثانياً: صلاحيات رئيس الجمهورية بعد الطائف
1- على صعيد الدستور:
بعد التعديل الأخير للدستور في 21/9/1990، لم تعد صلاحيات رئيس الجمهورية كما كانت عليه لناحية الإتساع والشمول واللامحدودية، بل جرى حصرها بما يتناسب مع النظام البرلماني ومع مبدأ المسؤولية والمحاسبة. وتحول رئيس الجمهورية من رئيس للسلطة التنفيذية أو الإجرائية إلى رئيس للدولة، كل الدولة بأرضها وشعبها ومؤسساتها، وأصبح رمزاً لوحدة الوطن.
وأن غاية هذه الرئاسة محددة بأربعة أمور أساسية: السهر على إحترام الدستور، المحافظة على إستقلال لبنان، ووحدته، وسلامة أراضيه، يعمل على تحقيق ذلك وفقاً لأحكام الدستور بمنحه صلاحيات محددة فصلها الدستور منعاً لكل إلتباس.
إن التعديل الأخير للدستور، حرم رئيس الجمهورية أي توقيع منفرد، إلا التوقيع على مرسوم تسمية رئيس الحكومة ومرسوم قبول إستقالة الحكومة أو إعتبارها مستقيلة (المادة 54).
وإذا كان رئيس الجمهورية في السابق يعين رئيس مجلس الوزراء بعد إجراء إستشارات غير ملزمة، أصبح اليوم يجري إستشارات ملزمة لتعيينه، وهذه الإستشارات قريبة من العملية الإنتخابية، وهذا ما أوردته الفقرة الثانية من المادة 53: "يسمي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب، إستناداً إلى إستشارات نيابية ملزمة، يطلعه رسمياً على نتائجها".
يعتبر النص الجديد تبديلاً جذرياً للحياة السياسية اللبنانية إذ أصبح رئيس الجمهورية بموجب النص الجديد ملزماً بإتباع الأصول الجديدة في التسمية بإحترام الإستشارات الملزمة ونتائجها، فقد إنتقلت التسمية من رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب وأصبح رئيس مجلس الوزراء ينتخب، دون أن يسمى ذلك إنتخاباً من قبل المجلس النيابي. إن المادة 53 القديمة من الدستور كانت تنص على أن رئيس الجمهورية يعين الوزراء ويسمي منهم رئيساً.
أما في الطائف، فكان خيار الإنتخاب المباشر لرئيس الوزراء من مجلس النواب موضع نقاش، إلا أن الرأي استقر على فكرة الإستشارات الملزمة. وفي هذا الصدد استغرب الرئيس الحص استمرار الجدل حول إلزامية الإستشارات النيابية التي يجريها رئيس الجمهورية لتسمية رئيس الوزراء المكلف، معتبراً أنه لا مجال للشك بأن المقصود بالإستشارات الملزمة تكون إلزامية ليس بإجرائها فحسب بل ملزمة بنتائجها أيضاً. وهذا ما أكد عليه الدكتور أحمد سرحال، عندما قال: "لو لم تكن ملزمة لما كان من داع لتأكيد صفتها الملزمة بإضافة هذه العبارة واللازمة إلى عبارة إستشارات، والتي لو بقيت دون هذا النعت بالملزمة لأمكن وجاز القول بأنها مجرد إستطلاع ووقوف على رأي النواب وإستمزاج لمواقفهم دون موجب العمل أو الأخذ بها ". ويؤكد الرئيس الحسيني أيضاً على إلزامية الإستشارات عندما يقول "إن الإستشارات النيابية هي ملزمة لتسمية رئيس الحكومة وليست شيئاً شكلياً، وإلا كان يمكن للنواب أن يرسلوا إلى رئيس الجمهورية رسائل من دون أن يعطلوا له وقته" . كذلك الأمر، يجزم النائب والوزير الأسبق حسن الرفاعي "بأن عبارة ملزمة الواردة في الفقرة الثانية من المادة 53 من دستور ما بعد الطائف واضحة وليست بحاجة إلى تفسير، وإن لا معنى للجدل القائم حول ما إذا كانت الإستشارات ملزمة بإجرائها ونتائجها أم فقط بإجرائها لأن كونها ملزمة يعني أنها تلزم أحداً ما، وهو هنا رئيس الجمهورية دون سواه، وبالتالي فإن نتائجها ملزمة حتماً له، ولو لم تكن كذلك لقلنا إنها إلزامية على النواب وغير ملزمة لأحد".
من الملاحظ أنه خلال تشكيل حكومات ما بعد الطائف- إتبعت الإستشارات الملزمة إجراء ونتائج ولم تثر أية نقطة حولها، إلا ما عرف "بأزمة التكليف" عام 1998 فقد تريث الرئيس الحريري في قبول تكليفه رئيساً للحكومة من قبل رئيس الجمهورية إميل لحود، ثم إعتذر عن ذلك معترضاً على ما آلت إليه الإستشارات النيابية الملزمة من نتائج خصوصاً لجهة إعتبار أن قيام 31 نائباً بتفويض رئيس الجمهورية حق إختيار من يراه مناسباً لرئاسة الحكومة مخالفاً لأحكام الدستور (الفقرة الثانية من المادة 53)، وحيث أن هذه المادة بعرف الرئيس الحريري "ميثاقيه"، لا يجوز تجاوزها ولا يستطيع هو التغاضي عن خرقها.
وحتى أن الرئيس سليم الحص الذي حل محل الرئيس رفيق الحريري في تشكيل الحكومة نتيجة الإستشارات النيابية الجديدة التي أعقبت إعتذار الحريري وجرت يومي1 و2/2/1998، قال إنه من رأي الحريري في رفضه للتفويض، ولكن لم ير في موقف رئيس الجمهورية مخالفة دستورية، ولم يكن من موجب لإعتذار الحريري عن التكليف خاصة وأن عدد النواب الـ 83 الذين سموه يشكل أغلبية مريحة وكافية للقبول بالتكليف. ويوافق الدكتور أحمد سرحال هذا الرأي في عدم جواز تفويض السلطة المشترعة للسلطة الإجرائية لإختصاصاتها أو لجزء منها أو بالعكس عندما يقول "إن مهمة النواب في تسمية مرشحيهم لرئاسة الحكومة كمهامهم الإنتخابية المتنوعة من الحقوق والفرائض التي أفردتها السلطة التأسيسية، وإستطراداً الدستور لصالحهم وعلى عاتقهم وذلك بالنظر لحيثيات وضمانات يوفرها المركز القانوني للنواب ويفتقدها مركز رئيس الجمهورية من كون هؤلاء منتخبين من قبل الشعب مباشرة، وعلى إعتبار أن مسؤولية الحكومة ورئيسها أمست تستوي أمام مجلس النواب وليس أمام رئيس الجمهورية". ويضيف الدكتور أحمد سرحال بأن رئيس الجمهورية إميل لحود فعل حسناً عندما لم يتصرف بأصوات أولئك النواب الواحد والثلاثين الذين فوضوه الإختيار بدلاً عنهم، ولم يحتسبهم أو يجيرهم لصالح أي من الأشخاص المسمين لرئاسة الحكومة من قبل النواب.
وإذا ما تكررت ظاهرة التفويض، فإننا قد نكون بصدد ترسيخ تعامل دستوري من شأنه أن يعدل بطبيعة النظام ويقترب بالوضع إلى ما كان عليه قبيل إقرار إتفاق الطائف للوفاق الوطني وعلى أي حال فإن الإستشارات النيابية التي أجراها رئيس الجمهورية في 23/10/2000، لم تظهر في نتائجها أن أحداً من النواب فوض رئيس الجمهورية التسمية أو التقرير مكانه، وكأن في ذلك "إقراراً بما ذهبنا إليه في التحليل من إحترام ليس فقط لنص دستوري وإنما أيضاً للروح الوفاقية التي جسدها إتفاق الطائف لعام 1989.
إن الإستشارات النيابية الملزمة جاءت بديلاً لإنتخاب رئيس مجلس الوزراء من النواب، وهذه الصيغة جاءت لحفظ موقع رئاسة الوزراء وعدم إخضاعها بالكامل لسيطرة المجلس النيابي، كما جاءت لحفظ موقع رئيس الجمهورية ولو شكلياً في تسمية رئيس الحكومة، مع إعطاء دور لرئيس مجلس النواب من خلال إطلاعه على نتائج الإستشارات التي هي ملزمة بإجرائها ونتائجها، وإذا لم تكن ملزمة بنتائجها لماذا يجب أن يطلع رئيس المجلس عليها؟ فهل من المنطق إستدعاء رئيس مجلس النواب وإبلاغه أن الأكثرية النيابية قالت كذا، ونحن سنعمل برأي مختلف؟ ولو لم تكن ملزمة بنتائجها لماذا يجري تدوينها من قبل مدير عام رئاسة الجمهورية .
2- إعادة النظر بقرارات مجلس الوزراء وبالقوانين
نصت المادة 56 من دستور ما بعد الطائف على أن رئيس الجمهورية "يصدر المراسيم ويطلب نشرها، وله حق الطلب إلى مجلس الوزراء إعادة النظر في أي قرار من القرارات التي يتخذها المجلس خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ إيداعه رئاسة الجمهورية. وإذا أصر مجلس الوزراء على القرار المتخذ أو إنقضت المهلة دون إصدار المرسوم أو إعادته يعتبر القرار أو المرسوم نافذاً حكماً ووجب نشره.
هذه الصلاحية المناطة برئيس الجمهورية مبررة "بإعتباره حكماً لا حاكماً وهي تنسجم مع حق الرقابة الشائعة التي يمارسها رئيس الدولة بموجب أحكام المادة 50 من الدستور". أما بالنسبة لمسألة نشر القوانين أو طلب إعادة النظر بها فقد نصت المادة 56 من الدستور على أن "يصدر رئيس الجمهورية القوانين التي تمت عليها الموافقة النهائية في خلال شهر بعد إحالتها إلى الحكومة ويطلب نشرها، أما القوانين التي يتخذ المجلس قراراً بوجوب إستعجال إصدارها، فيجب عليه أن يصدرها في خلال خمسة أيام ويطلب نشرها".
إن المادة 57 من الدستور أتاحت لرئيس الجمهورية إعادة النظر بالقوانين عندما نصت "لرئيس الجمهورية، بعد إطلاع مجلس الوزراء، حق طلب إعادة النظر في القانون مرة واحدة ضمن المهلة المحددة لإصداره ولا يجوز أن يرفض طلبه، وعندما يستعمل الرئيس حقه هذا، يصبح في حل من إصدار القانون إلى أن يوافق عليه المجلس بعد مناقشة أخرى في شأنه، وإقراره بالغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذي يؤلفون المجلس قانوناً. وفي حال إنقضاء المهلة دون إصدار القانون أو إعادته، يعتبر القانون نافذاً حكماً ووجب نشره".
بموجب المادتين 56 و 57 من الدستور، فإن رئيس الجمهورية هو الذي يصدر القوانين ويطلب إعادة النظر فيها منفرداً دون الحاجة إلى موافقة مجلس الوزراء وإنما يكتفي بإطلاعه فقط، وهذا ينسجم مع كونه رئيس الدولة وراعي المؤسستين السياسيتين: مجلس الوزراء ومجلس النواب .
هذه الرعاية تجعله الوسيط الحكمي لإحالة مشاريع القوانين المقرة في مجلس الوزراء إلى المجلس النيابي لدراستها وإقرارها (الفقرة 6 من المادة 53 من الدستور). إضافة إلى صلاحيته السلبية الشديدة الفعالية في رد القوانين ورد القرارات الحكومية أعطي إمكانية توجيه رسائل إلى المجلس النيابي عندما تقتضي الضرورة (الفقرة 10 من المادة 53 من الدستور)"، يلفته فيها إلى الأصول الدستورية إذا أخل بها أو قارب الإخلال، أو يلفته فيها إلى مصلحة الدولة العليا، إذا قارب إيذاءها، وإلى مصلحة المواطنين إذا قارب إغفالها، وإلى أحوال التعاون مع السلطة الإجرائية إذا قارب الإدبار عنها أو الإنزعاج منها، أو التشجيع على حسن عمل أو كبير جهد إذا قارب التلبية والعمل الجاد والتشريع السريع بما تقتضي مصلحة الدولة وحسن إدارتها ودفع عجلة الحكم وتسهيل عمل السلطة الإجرائية .
في مقابل هذه الصلاحية، أعطي رئيس الجمهورية صلاحية حضور جلسات مجلس الوزراء وترؤسها وإبداء الرأي والملاحظات بكل أمر يطرح، والمشاركة في النقاش دون أن يكون له حق التصويت في مجلس الوزراء لأنه ليس جزءاً منه بل هو فوقه، هو رئيس الدولة وليس رئيس السلطة الإجرائية، هو إذاً "ليس رئيساً مباشراً لهذه المؤسسات لأن لها رؤساء مباشرين. له رئاسة رعاية لا رئاسة أمرة ورئاسة عامة لا رئاسة مباشرة. ورئاسة الرعاية هذه لمجلس الوزراء أعطت رئيس الجمهورية الحق والصلاحية بدعوته إستثنائياً بالإتفاق مع رئيس الحكومة (الفقرة 12 من المادة 53)، وله عرض أي طارئ على مجلس الوزراء من خارج جدول أعماله (الفقرة 11 من المادة 53). أما رئيس الحكومة الذي هو الرئيس المباشر لمجلس الوزراء لا يستطيع أن يعرض أي أمر طارئ على مجلس الوزراء من خارج جدول الأعمال لأنه جزء من مجلس الوزراء وشريك حكم مباشر في السلطة الإجرائية. أما رئيس الجمهورية يستطيع ذلك لأنه من خارج مجلس الوزراء وليس شريكاً فيه، وليس معنياً مباشرة بالسلطة الإجرائية بل هو رئيس رعاية.
وبصفته رئيساً للدولة، أعطي رئيس الجمهورية الصلاحيات اللازمة لتأدية هذا الدور، فاعتماد السفراء وتولي المفاوضات في المعاهدات الدولية ومنح العفو الخاص والأوسمة، جميعها مهام يقتضي للقائم بها حق تمثيل الدولة كلها وليس له هذا الحق إلا رئيس الجمهورية. وبسبب المشاركة والديمقراطية اللبنانية الإصطلاحية المركبة أعطي رئيس الحكومة الحق في مشاركة رئيس الدولة في إبرام الإتفاق الذي يفاوض رئيس الدولة بشأنه منفرداً، ولا يصبح الإتفاق مبرماً إلا بعد موافقة السلطة الإجرائية أي مجلس الوزراء (المادة 52 من الدستور).
أناط الدستور برئيس الجمهورية مهمة المحافظة على إستقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه، فمنحه صلاحية محددة في هذا الصدد هي ترؤسه المجلس الأعلى للدفاع وقيادته العليا للقوات المسلحة (المادة 49) التي لا تعطيه سلطة مباشرة على هذه القوات، وإنما سلطة رعاية كون القوات المسلحة مؤسسة من مؤسسات الدولة. فسلطة القرار بالنسبة لها تعود إلى مجلس الوزراء.
في هذا الصدد يقول الوزير السابق جورج سعاده، في معرض مناقشة المادة 49 من الدستور إنه بالنسبة لعبارة القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء "هذه تناقشنا فيها بالطائف، وكانت الغاية واضحة، يعني لقب شرف أكثر مما هو لقب عملي، فرئيس الجمهورية لا يستطيع إستعمال الجيش دون أن يعود إلى مجلس الوزراء"، فيجيب الرئيس الحسيني" يعني ليس له حق الإمرة على الجيش، فالأمر لمجلس الوزراء" .
وإنتقد الرئيس سليم الحص كلام الرئيس الياس الهراوي أكثر من مرة بأنه القائد الأعلى للجيش "لأن المادة 49 من الدستور قد أشارت إلى أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء، فالقيادة العليا إذاً لا تقترن بسلطة، أما السلطة فهي منوطة بمجلس الوزراء" .
وهكذا رسم إتفاق الطائف دور رئيس الجمهورية ومهامه وصلاحياته، فهو رئيس الدولة بجميع مؤسساتها، وإن رئاسته هي "رئاسة رعاية وتنسيق وتصويب". إنه يسهر على إحترام دستور الدولة وإستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها" دور أمانة رسم لأمين، دور عام رسم لمن همه الشأن العام، دور عال رسم لمن يعرف أن يعلو، دور جوهري رسم لمن يعرف أن يميز بين الجوهر والقشور في حياة الدول ومسار الحكم، دور كبير رسم لكبير، فهل من كبير؟" . ويشدد الرئيس الحسيني على ذلك، عندما يرى أن رئيس الجمهورية هو رئيس السلطات...، وهو رئيس الدولة بكامل عناصرها ويمثلها بهذه الصفة أمام الدول الأخرى . كما أن النائب السابق فؤاد الطحيني أكد على أن رئيس الجمهورية ما زال رأس الدولة والحكم بين اللبنانيين عندما قال "نحن لم نقطع رأس الدولة، فلهذه الدولة رأس هو رئيس الجمهورية، نحن لم نقطع رأس الدولة لنحول رأس الدولة إلى بوسطجي بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، إنما جعلنا من رئيس الجمهورية حكماً بين اللبنانيين ورمزاً للوطن ورئيساً للدولة وحامياً للدستور وللسيادة الوطنية" .
3- المشاركة في الصلاحيات:
بين الرأي القائل بأن رئيس الجمهورية قد ظل محتفظاً بكامل صلاحياته بعد دستور الطائف، والرأي الآخر القائل بتجريد الرئيس من صلاحياته، هناك رأي موضوعي بين الرأيين يقول بأن الرئيس لم يحافظ على صلاحياته كاملة ولم يجرد منها بصورة كاملة أيضاً.بل أن الطائف وزع الصلاحيات بين الرئيسين بصورة متوازنة. وينطلق أصحاب هذا الرأي من المواد التي عدلت بعد الطائف، فبعد أن كانت السلطة الإجرائية منوطة برئيس الجمهورية قبل الطائف، أصبحت منوطة بمجلس الوزراء (المادة 17). فالدستور الجديد أوجد مؤسسة مجلس الوزراء وهي لم تكن موجودة في الدستور السابق لأن مجلس الوزراء لم يكن لينعقد إلا برئاسة رئيس الجمهورية .
إن التعديلات الجديدة لا تعني أن رئيس الحكومة في لبنان أصبح كرئيس الحكومة في بريطانيا أو كأي رئيس حكومة في نظام برلماني فهو ليس الحاكم الفعلي الوحيد، ورئيس الجمهورية ليس ملكاً لا يحكم بل ما زال يتمتع بصلاحيات مهمة في السلطة التنفيذية، وهذه الصلاحيات يمارسها بالمشاركة مع رئيس الحكومة شريكه الثاني في السلطة التنفيذية، في إطار مؤسسة مجلس الوزراء. والصلاحيات المعطاة لكل منهما جاءت متوازنة تجعل السلطة مشاركة ومناصفة بينهما، وإن صلاحيات رئيس الجمهورية لم تنتقل إلى رئيس الحكومة وإنما نقل جزء منها إليه والجزء الآخر نقل إلى مجلس الوزراء. وإن دستور ما بعد الطائف رسم لرئيس الجمهورية دوراً جديداً ومميزاً، ولم يجرده من كل صلاحياته السابقة. إن منطق المشاركة والمناصفة بين رئاسة الجمهورية من جهة ورئاسة الحكومة والحكومة من جهة أخرى، هو الذي ساد بعد التعديلات الدستورية الأخيرة من خلال الصلاحيات المشتركة التي نص عليها الدستور الجديد، والتي كرست الثنائية التنفيذية المتساوية نسبياً بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. وهذه الصلاحيات المشتركة هي :
يشترك رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية في تشكيل الحكومة.
يتولى رئيس الجمهورية المفاوضة في المعاهدات الدولية بالإتفاق مع رئيس الحكومة (المادة 52).
توقيع رئيس الحكومة إلى جانب رئيس الجمهورية جميع المراسيم، بإستثناء تسمية رئيس الحكومة وقبول إستقالتها أو إعتبارها مستقيلة (المادة 54). المشاركة بين الرئيسين في توقيع مرسوم الدعوة إلى فتح دورة إستثنائية لمجلس النواب ومراسيم إصدار القوانين وطلب إعادة النظر فيها (المادة 64 فقرة 5).
يحيل رئيس الجمهورية مشاريع القوانين التي ترفع إليه من مجلس الوزراء إلى مجلس النواب (المادة 53 فقرة 6).
لرئيس الجمهورية رئاسة المجلس الأعلى للدفاع وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء (المادة 49)، ويكون رئيس الحكومة حكماً نائباً لرئيس المجلس الأعلى للدفاع (المادة 64 فقرة 1).
إن الوضع الذي كان سائداً ما قبل الطائف لم يكن صحيحاً، فرئيس الجمهورية كان حاكماً مطلقاً يتمتع بصلاحيات واسعة ولا يتحمل أية مسؤولية، بينما كانت الحكومة مسؤولة وتتحمل تبعات سياسة رئيس الجمهورية، وفي ذلك خرق للقاعدة التي تقول إن المسؤولية يجب أن تكون إلى جانب الصلاحية. إن نقل الصلاحيات من يد رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً مسأله طبيعية ودستورية وتنسجم مع النظام البرلماني، لا سيما أن مجلس الوزراء هو المؤسسة الشاملة الجامعة التي يجب من ناحية المبدأ أن تضم نسبياً مختلف ممثلي القوى والتيارات والطوائف الموجودة على الساحة اللبنانية، فتصبح المسؤولية والصلاحية مجتمعة فيه.
إن النظام البرلماني يقتضي أن تتوزع السلطات فيه على النحو القائم، فرئيس الجمهورية هو رمز الدولة وحامي الإستقلال والمؤسسات، والحكومة مسؤولة عن السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء وهي التي تحاسب أمام الرأي العام وأمام المجلس النيابي الذي هو المسؤول عن مساءلتها وعن سياستها وبرامجها التي نالت الثقة على أساسها.
لم يجرد الطائف رئيس الجمهورية من صلاحياته ليجعله في موقف ضعيف، ولكنه لم يبق عليه كحاكم مطلق الصلاحية، وإنما أعاد توزيع الصلاحيات ليناسب دوره الجديد ولم يعد طرفاً في جميع المسائل الصغيرة والكبيرة. إن إبعاده عن التصويت في مجلس الوزراء كانت الغاية منه إبعاده عن أن يكون طرفاً في أية مسألة من مسائل العمل الإداري والوظيفي كتعيين الموظفين وإقالتهم وغير ذلك من الأمور الأخرى.
إن التعديلات الدستورية الأخيرة، جاءت لتأمين المشاركة في الحكم بحيث يجب أن لا يشعر رئيس الجمهورية ومؤيدوه أنهم جردوا من الصلاحيات، ولا يجب أن يشعر الفريق الآخر أنه ما زال مغبوناً وغير مشارك في السلطة بل يجب أن يقتنع الجميع أن الصيغة الجديدة هي صيغة المشاركة في الحكم والمسؤولية على أسس النظام البرلماني. ومن الممكن أن تؤدي الثنائية التنفيذية الفعلية والمتساوية، والتي أقرها الدستور إلى صدام بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة حول الصلاحيات الدستورية المنوطة بهما. وإذا كان رئيس الجمهورية قد فقد بموجب التعديل الأخير صلاحية إقالة الحكومة، فإنه ما زال يمتلك بعض الوسائل لدفع الحكومة إلى الإستقالة وذلك من خلال الإيعاز إلى أكثر من ثلث أعضاء الحكومة إلى الإستقالة، أو من خلال الإيعاز إلى بعض النواب المحسوبين عليه إلى طرح موضوع حجب الثقة عن الحكومة في المجلس النيابي. إن هذه الثنائية التنفيذية الفعلية والمتساوية لم تعد موجودة في الأنظمة البرلمانية، بإعتبار أن الحكومة هي التي تتحمل بشخص رئيسها المسؤولية السياسية أمام البرلمان، وهي في الوقت نفسه الممثلة للأكثرية البرلمانية. "ولذلك فإن رئيس الحكومة وليس رئيس الجمهورية هو الذي يمارس السلطة الإجرائية بالتعاون مع الوزارة. وهذا الواقع الدستوري يسمى في النظام البرلماني الثنائية التنفيذية اللامتساوية لصالح رئيس الحكومة".
إن الثنائية التنفيذية الفعلية والمتساوية التي أقرها التعديل الدستوري الأخير تفرض على رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة التعاون والتوافق في إدارة شؤون السلطة التنفيذية.
إلا أن الواقع غير النصوص، فهناك الكثير من الخلافات والجدل القائم على تفسير النصوص، كما أن هناك الكثير من الممارسات السابقة للطائف ما زالت قائمة، الأمر الذي أدى وما يزال إلى خلافات وأزمات دستورية وسياسية تظهر من حين إلى آخر.
4- من ناحية الواقع السياسي
إن دستور ما بعد الطائف أوجد صيغة جديدة للحكم عندما نص على صلاحيات كل مؤسسات النظام وعلاقتها ببعضها البعض. إلا أنه وككل نظام سياسي، فإن الواقع قد يختلف عن النصوص نتيجة للإجتهادات الكثيرة التي تثار أثناء تفسير النصوص، بحيث ينشأ عن التنفيذ إشكالات قانونية ودستورية، كما أن واقع البلاد وتركيبتها وشخصية كل من يتبوأ مسؤولية رئاسة هذه المؤسسات يكون لها عادة دور في الممارسة يمكن أن يتجاوز حدود النص. خلال عمل الحكومات ما بعد الطائف حصلت إشكالات دستورية عدة أدت إلى خلافات حول الصلاحيات بين أركان الحكم خاصة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وأظهرت بعض الخلل بين الممارسة والنصوص الجديدة.
منذ قيام الحكومة الأولى بعد الطائف برئاسة الرئيس سليم الحص بدأت الإشكالات تظهر خاصة عندما قام الرئيس الهراوي بالإدلاء بتصاريح صحفية. "ربما ليثبت أن إتفاق الطائف لم ينل من سلطات رئيس الجمهورية أو صلاحياته الأساسية قيد أنملة، بالرغم من أن نصوص الإتفاق نقلت أكثر السلطات من رئاسة الجمهورية التي لا تحمل أية مسؤوليات سياسية أو تبعات حسب الدستور، إلى مجلس الوزراء الذي يتحمل كل المسؤوليات والتبعات السياسية عن ممارسة الحكم". في أيلول 1990، برز أيضاً إشكال آخر تمثل في غياب الرئيس الحص عن البلاد، إذ تم عقد جلسة لمجلس الوزراء برئاسة رئيس الجمهورية وبغياب رئيس الوزراء. أثار ذلك إمتعاض الرئيس سليم الحص الذي رفض الحجج التي أعطيت لعقد هذه الجلسة خاصة أنه لم يوافق صراحة عليها.
لقد رفض الرئيس الحص رفضاً قاطعاً وجهة النظر التي تقول بأن غياب رئيس مجلس الوزراء يجب ألا يعطل مجلس الوزراء وإعتبار أن نائب رئيس المجلس هو الذي يحل مكان رئيس الوزراء أثناء غيابه.
واعتبر أن دور نائب الرئيس في هذه الحالة يقتصر على تصريف شؤون الحكم اليومية ومتابعة سير الإدارة، وليس في رئاسة مجلس الوزراء إنطلاقاً من المعادلة الطائفية التي تحفظ المراكز في مواقع السلطات لممثلي الطوائف حسب النص الدستوري .
وفي هذا الصدد، يؤيد الدكتور أحمد سرحال وجهة نظر الرئيس الحص عندما يقول إن "رئاسة الحكومة بعد إتفاق الطائف لعام 1989 والتعديل الدستوري الموافق لعام 1990، لم تعد كرسياً خاوياً، وحيث كرس لها عنوان مستقل في إطار الفصل الرابع من الباب الثاني من الدستور، وأمست ذات صفة تمثيلية وشريكاً فعلياً في الحكم...".
إنطلاقاً من ذلك فإن أي جلسة لمجلس الوزراء لا يمكن أن تعقد قانوناً إلا بحضور رئيس مجلس الوزراء، حتى في حال دعوة رئيس الجمهورية مجلس الوزراء إلى جلسة إستثنائية، فقد جاء في الفقرة 12 من المادة 53 من الدستور حول صلاحيات رئيس الجمهورية: يدعو مجلس الوزراء إستثنائياً كلما رأى ذلك ضرورياً بالإتفاق مع رئيس الحكومة. والواضح في هذه المادة أن الإتفاق بين الرئيسين أمر جوهري بالنسبة إلى إنعقاد الجلسة، والإتفاق معناه موافقة الطرفين ويجب أن تكون موافقة رئيس مجلس الوزراء صريحة وواضحة، إستناداً إلى وضوح النص المذكور وإلى مداولات مجلس النواب أثناء تعديل المادة 53 من الدستور.
إن الطبيعة القانونية لمجلس الوزراء بعد الطائف مرتبطة إرتباطاً كاملاً بشخص رئيس الوزراء الذي بوفاته أو بإستقالته ينهي مجلس الوزراء، فلو أن نائب الرئيس يحل محل الرئيس في حال غيابه، لكان بالإمكان أن يحل محل الرئيس في حال الإستقالة أو الوفاة، وهذا مستحيل لأن الدستور ينص صراحة على أن تسمية رئيس الوزراء يتم بعد إستشارات نيابية ملزمة، فبعد الوفاة أو الإستقالة يقتضي إجراء إستشارات نيابية ملزمة وتكليف رئيس جديد للحكومة، إضافة إلى أن رئاسة الوزراء هي للطائفة السنية، وإسنادها إلى طائفة أخرى هو خروج عن الأعراف والتقاليد المتبعة.
وظهر إشكال آخر عند تطبيق دستور ما بعد الطائف وله علاقة وثيقة بمسألة المشاركة، وهو المتعلق بتصاريح وخطب رئيس الجمهورية. فلقد نصّت المادة 53 من الدستور المعدل في 21/9/90 في فقرتها العاشرة، إن رئيس الجمهورية: "يوجه عندما تقتضي الضرورة رسائل إلى مجلس النواب". من الطبيعي أن يوجه رئيس الجمهورية إلى الشعب وإلى البرلمان رسائل وخطابات في المناسبات المختلفة خاصة الرسمية منها، كالإستقلال وغيره يبدي فيها رأيه في الأمور العامة وتوجيه النصح بوصفه رئيساً للدولة ومؤتمناً على المحافظة على الدستور والقوانين، لكن السؤال المطروح: هل يستطيع الرئيس أن يحدد سياسة الدولة وخطتها وبرامجها العامة والتفصيلية وأن يتحدث عن سياسة الحكومة وغيرها من النقاط بعد أن نقل التعديل الدستوري لعام 1990 السلطة الإجرائية إلى مجلس الوزراء؟
إن رئيس الجمهورية في لبنان ما قبل الطائف كان المسؤول عن السياسة العامة وسياسة الحكومة، وهو الناطق الرسمي بإسم الدولة في جميع الميادين الداخلية والخارجية، بحكم تمتعه بالصلاحيات الواسعة التي منحه إياها دستور ما قبل الطائف.
إلا أنه وبعد الطائف نقلت السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، وأصبح رئيس الحكومة بموجب المادة 64 من الدستور هو الذي يمثل الحكومة ويتكلم بإسمها. إلا أن من الناحية الواقعية إستمر رئيس الجمهورية في الإدلاء بأحاديث وتصاريح في مناسبات مختلفة تدخل في إطار سياسة وبرامج وأعمال الحكومة، الأمر الذي يخالف نص الدستور. وقد تكرر ذلك في أكثر من مناسبة مع كل من الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود، مما أثار حفيظة رؤساء الحكومات وإعتراضهم، خاصة الرئيس سليم الحص وكانت له وقفات مع هذه الممارسة في العهدين "خصوصاً عندما عقد الرئيس الهراوي مؤتمراً صحفياً في 26/11/1990 تحدث فيه من موقع صاحب القرار في شتى القضايا، ما أثار لغطاً سياسياً وصحفياً كبيراً لم يكن من الممكن تجاوزه أو إحتمال نتائجه المستقبلية المحتملة فيما لو ترجم السكوت على ذلك النهج قبولاً به، ما دفع الرئيس الحص إلى مواجهة الرئيس الهراوي "بالعتاب"، ومن ثم مناقشة الأمر في مجلس الوزراء ليعلن بعدها في تصريح صحفي في 29/11/1990، بأنه كان الرأي مجمعاً على حق رئيس الجمهورية في مخاطبة اللبنانيين بكلام توجيهي وطني وإن التعبير عن سياسة الحكومة وشؤون الدولة في شتى المجالات هو حسب الدستور من حق رئيس مجلس الوزراء وأن التحدث عن شؤون كل وزارة يعود للوزير المختص" ( ). وتكرر الأمر بين الرئيسين إميل لحود وسليم الحص:
- في 6 نيسان 2000، كتب الرئيس لحود إلى الأمين العام للأمم المتحدة مباشرة من دون المرور بالرئيس الحص والتشاور معه بصفته رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية.
- كما أن الرئيس لحود عاد وكتب مره ثانية في 11 حزيران عام 2000 إلى الأمين العام للأمم المتحدة مذكرة في موضوع رسم الخط الأزرق، فإعتبر الرئيس الحص بأن الرئيس لحود أساء له مرتين من حيث لا يريد ولا يقصد .
إن إعتراض الرئيس الحص على هذه النقطة يأتي منسجماً مع نصوص الدستور اللبناني التي تعتبر أن السلطة الإجرائية هي في يد مجلس الوزراء، ورئيس الوزراء هو المسؤول عن إعلان سياسة ومواقف الحكومة في شتى الميادين، إضافة إلى حصر صلاحية الحديث عن شؤون أية وزارة بالوزير المختص، مع إقراره للرئيس بالحق المطلق بتوجيه الأمور توجيهاً عاماً من خلال مجلس الوزراء، وبإمكانه التعبير عن السياسة العامة التي تنتهجها الدولة، بما ينسجم مع الموقف المحدد أساساً والمتفق عليه دون الوصول إلى إتخاذ مواقف تفصيلية تدخل في إختصاص الحكومة أو الوزراء.
كما ذهب البعض أبعد من ذلك عندما اعتبر "أن التعاطي الإعلامي المباشر للرئيس وإدلائه بتصاريح وأحاديث صحفية هو من الشوائب التي تعتبر خروجاً على مسار الطائف". وإن أكثر الخطب التي كانت مثاراً للجدل والنقاش، هو خطاب القسم للرئيس إميل لحود عند تسلمه رئاسة الجمهورية في عام 1998. إذ تحدث فيه عن عناوين أساسية لبناء الدولة على أسس سليمة، لا سيما قيام دولة القانون والمؤسسات ومكافحة الفساد ومحاسبة المسؤولين عن أسباب إرتفاع الدين وإعادة النظر بالأولويات الإنمائية وغيرها من المسائل الأساسية، وصولاً إلى تحديد سياسة الدولة الدفاعية والخارجية.
إنها خطة عمل مفصلة في مختلف الميادين، إلا أنه من الناحية الدستورية لا تدخل في صلاحية رئيس الجمهورية، بل هي من صلاحية الحكومة مجتمعة والإعلان عنها هو من مسؤولية رئيس الحكومة، لأنه سيكون مع حكومته مسؤولاً عن تنفيذ هذا البرنامج فيما لو أقر بمجلس الوزراء، ولا يتحمل رئيس الجمهورية المسؤولية عن التنفيذ أو عدمه. وكان من الأسلم على رئيس الجمهورية أن يعرض هذا البرنامج على مجلس الوزراء لمناقشته وإقراره، لأن مبدأ المحاسبة يقتصر على الحكومة ووزرائها، وهذا ما دفع الدكتور زهير شكر إلى القول "بصرف النظر عن مضمون الخطاب فإنه من الوجهة الدستورية، وبعد أن نقل التعديل الدستوري لعام 1990 السلطة الإجرائية إلى مجلس الوزراء، لا يلزم إلا فخامة رئيس الجمهورية".
|