الفقرة الأولى: مداخلة رئيس الجلسة معالي د. خالد قباني
لم تكن الحياة السياسية والدستورية في لبنان، بدءاً من إقرار اتفاق الطائف، وتحويل الإصلاحات السياسية التي تضمنها إلى مواد في الدستور، ترجمة صادقة لأحكام الدستور، ولما احتواه من أسس ومبادئ وقواعد، كما يقتضي أن تكون، وباعتبار هذا الدستور، وخاصة ما جاء في مقدمته، معبراً عن أماني وطموحات وتوجهات الشعب اللبناني وخياراته الأساسية وتطلعاته إلى حياة آمنة ومستقرة، وبناء دولة ديموقراطية، قوامها الحرية والمساواة والعدالة، بل اتجهت الحياة السياسية والدستورية، اتجاهات ومسارات أخرجت الدستور، بما هو نظام حياة وخارطة طريق، عن مساره الطبيعي والصحيح، ونقضت أحكامه، وابتعدت عن كل ما يجعل الدولة دولة قانون ومؤسسات، سواء في ما يتعلق بتشكيل الحكومات، أو في ما خص المسألة الطائفية أو قانون الانتخاب، أو مفهوم العيش المشترك، أو في ما يرتبط بصلاحيات رئيس الجمهورية، وهو الموضوع الذي كان محل جدل ونقاش وخلافات وتفسيرات كثيرة، كان له الأثر الكبير على استقرار الحياة السياسية والدستورية في البلاد.
أراد اتفاق الطائف أن يضع رئيس الجمهورية في موقع سامٍ ومتميز نظراً للدور المقدر له أن يقوم به كمرجع في الشأن الوطني العام والحكم في الصراع السياسي في ظل نظام برلماني، يقوم على المشاركة في الحكم، من جهة ، وعلى تنافس سياسي حاد بين قوى وأحزاب وتكتلات سياسية ذات توجهات مختلفة تتصارع ديموقراطياً للوصول إلى السلطة.
أراد الطائف أن يكون رئيس الجمهورية بعيداً ومنزهاً عن الصراعات السياسية، سواء داخل البرلمان أو داخل السلطة التنفيذية، وفي منأى عن هذه الصراعات، لكي يحافظ على موقعه الدستوري كصمام أمان للنظام، ولكي يستطيع أن يضبط آلة الحكم، فتبقى البلاد منضبطة في إطار الدستور والقانون، ولا تخرج عن أحكامهما، بحيث تتحول البلاد إلى حالة من الفوضى، لا مرجع لها ولا ضابط، وقد زود الدستور رئيس الجمهورية بالوسائل والأدوات والصلاحيات الدستورية، بما يحفظ له موقعه ومرجعيته ودوره كحامي للدستور ووحدة الدولة والعيش المشترك.
في الأنظمة السياسية العريقة في الديموقراطية، تتكفل آليات الديموقراطية، الدستورية منها والسياسية ، بضبط إيقاع عمل مؤسسات الدولة، والحؤول دون الخروج عن النظام العام، ومن احترام مبدأ الفصل بين السلطات، بما يعني ذلك من التزام كل سلطة حدود اختصاصها، وعدم تجاوزها على اختصاصات غيرها أو ممارسة سلطات ليست لها، واستعمال وسائل المساءلة والمحاسبة، واللجوء إلى الاستفتاء، وكل ذلك في مناخ من الحرية يمكن المواطن والمجتمع المدني أن يلعب دوره في عملية التوجيه والرقابة، بحيث يشكل الرأي العام واتجاهاته المختلفة البوصلة التي توجه عمل السلطات العامة، فيكون صمام الأمان من داخل النظام وليس من خارجه.
أما في البلدان التي لا تزال تتلمس طريقها إلى الديموقراطية وممارسة الحريات العامة، أو في بلد كلبنان، يتكون من طوائف مختلفة ومتنافسة، تتحكم فيها موازين قوى داخلية وخارجية، وتقوم العلاقات بين أطرافها على حساسيات دقيقة ومفرطة وتوازنات معقدة، فلا بد من وجود مرجعية للنظام، موثوقة ومنزهة عن الصراعات السياسية، وتتمتع بالتجرد والترفع لضبط إيقاع عمل الدولة، لكي تحول، إلى حد ما، دون إمكانية التدخل الخارجي في الصراعات الداخلية وتلعب دور صمام الأمان لحل مشاكل الداخل، فجاء الدستور ليعطي رئيس الجمهورية هذا الموقع وليقوم بدور الحكم بين المتصارعين. وبالفعل، فقد نصت المادة /49/ من الدستور على أن رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور.
وضع الدستور رئيس الجمهورية في المكانة والموقع السامي الذي يستحق، وضعه في موقع القمة من هرم البنيان الدستوري، وعلى مسافة من كل السلطات، ورسم له دوره وحدده في إطار السهر على احترام الدستور، وبما يحفظ استمرار وانتظام عمل السلطات والمؤسسات الدستورية بتعاون وتناغم كاملين.
كما أناط به الحفاظ على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه. وهذا يعني أن الدستور قد أوكل إليه الاهتمام بالقضايا الوطنية الكبرى، والتي من شأنها أن تؤمن للوطن ديمومته واستمراريته، وللكيان سلامته ومناعته، وللشعب وحدته وتضامنه، وللبنان استقلاله وسيادته، أي حرية قراره الوطني وسلطة الدولة الكاملة على إقليمها وعلى المتواجدين على أرضها.
تأكيداًعلى هذه المكانة السامية لرئيس الجمهورية، مكنه وحده من ان يحلف امام ممثلي الشعب، يمين الإخلاص للأمة والدستور، وإن كان انتخابه لا يتم مباشرة من قبل الشعب، بل من مجلس النواب الممثل للإرادة الشعبية، فهو يتعهد أمام البرلمان، متوجهاً من خلاله إلى الأمة، إلى الشعب اللبناني، باحترام الدستور والقوانين والحفاظ على استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه، أي بالقيام بالدور الذي يمكنه من تحقيق هذه الأهداف.
لكي يستطيع الرئيس القيام بهذا الدور الوطني الكبير والخطير، ولكي تبقى له المكانة والهيبة التي تساعده على القيام بهذا الدور، فقد أعفاه الدستور من المسؤولية السياسية تجاه مجلس النواب، لكي لا يعرضه للانتقاد أو الملامة أو توجيه سهام الاتهام إليه في ما يقوم به من مهام، بحيث يصبح فريقاً في الصراع السياسي أو جزءاً من هذا الصراع، لا طرفاً فيه، فنصت المادة /60/ من الدستور على أنه لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلا عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى وفي هاتين الحالتين، وحتى في ما خص الجرائم العادية، فقد أولاه امتيازاً لم يعط لغيره من سائر السلطات، وهو المحاكمة أمام المجلس الأعلى وليس أمام المحاكم العادية.
إمعاناً في احترام مقام رئيس الجمهورية، وعدم زجه في الصراع السياسي وخلافات الرؤى، ولكي يحافظ على موضوعيته وحياده، ويبقى محل ثقة الجميع، تمكيناً له من لعب دور الحكم، ودور القاضي العادل، فقد منع عنه الدستور، في المادة /53/ منه المشاركة في التصويت، عندما يترأس جلسات مجلس الوزراء، فيتولى إدارتها ويترك للمداولات والمناقشات أن تأخذ مجراها وأبعادها السياسية والديموقراطية، مراقباً وموجهاً ومصوباً عندما تقضي الضرورة.
هذا هو موقع الرئيس ودوره، ولا يمكن النظر إليهما من زاوية التماثل أو التساوي مع الرئاسات أو مع صلاحياتها. فصلاحيات رئيس الجمهورية تتحدد في ضوء موقعه ودوره، وليس في ضوء المقارنة مع صلاحيات الرئاسة الأخرى، لأن مهمة الرئيس وطبيعتها وأبعادها تختلف وتتميز عن تلك المنوطة بالرئاسات الأخرى والتي تحكمها أصول وقواعد النظام البرلماني القائمة على مفهوم التعاون والتوازن، من جهة، ووسائل الضغط المتبادلة والمساءلة والمحاسبة، من جهة ثانية، فصلاحيات الرئيس لا تقارعها ولا توازيها ولا تدانيها أي من صلاحيات الرئاسات الأخرى.
نعم، رئيس الجمهورية هو المرجعية وهو الحكم، لا الشارع ولا الخارج، عندما يحتدم الصراع بين القوى السياسية، بين أكثرية وأقلية، بين الحكومة ومجلس النواب، وحتى بين أعضاء الحكومة أنفسهم، وعندما تقصر آليات النظام الديموقراطي عن استيعاب أو احتواء الخلافات أو النزاعات او تفقد فاعليتها، بسبب تضارب المصالح وتداخلها، أو الحساسيات الطائفية والمذهبية، أو أي أسباب أخرى.
ولكن يبقى التساؤل سيد الموقف حول فاعلية موقع الرئيس ودوره، وتبقى الحيرة قائمة والغموض يلف مسألة صلاحيات رئيس الجمهورية والإشكالات والتساؤلات من حولها مازالت تطرح بإلحاح وتشكيك. فالبعض يعتبر ما يتمتع به رئيس الجمهورية من مهام واختصاصات وموقع ودور، مجرد نصوص أو"كليشهات" إذا جاز التعبير تخلو من أي فاعلية أو مضمون عملي، والبعض الآخر يرى ان رئيس الجمهورية لم يعط الوسائل والصلاحيات التي تمكنه من أن يلعب من خلال موقعه الدستوري، دوره كحكم في الصراع السياسي أو كصمام أمان للنظام، مما أوقع البلاد والحياة السياسية في مأزق دائم.
|