الفقرة الرابعة: مداخلة د. البير رحمه
إن جسامة المأزق تستوجب اطلاق نداء الاستغاثة التالي: "تتعرُّض السياسة بمبادئها السامية والاصيلة للتشويه من جراء التطفّل على العمل السياسي، فنرجو ممن لديه الخبرة والقدرة على تحمل عبئ وتداعيات اصلاح هذه الحالة الخطرة في لبنان خاصةً ، التفضّل بالمساعدة على تخطي هذه الظاهرة القديمة والمتجددة بحيث عدواها ستودي بكل جديد . وهنا مكمن المأزق الاساسي".
باختصار، العمل السياسي بحاجة للانقاذ في لبنان ، فالمطلوب مستشفىً وعياداتٍ سياسيةٍ على شاكلة المستشفيات الطبية لمعالجة هذة الآفة المستشرية. وما يزيد المازق السياسي تفاقماً طبيعة شعب وأرض ومحيط لبنان التعددي بامتياز، فمن الصعب الحفاظ على النظام او أي صيغة الا بالتوافق بين فئاته (كل طوائفه ومذاهبه وقواه الاساسية) حيث لبنان لا يُحكم الا بالتوافق ولو بالاكراه .
فالنظام الديمقراطي بمبادئة وعناصره وشروطه العامّة لا يمكن تطبيقه على ارض الواقع اللبناني، لأن ديمقراطية الاعداد تعيده الى العصبية القبلية والتخلف وحتى نوع الديمقراطية التوافقية المعتمده فيه يتخللها الكثير من الشوائب اثناء الممارسة من قبل النخب والحكام . فالنظام اللبناني ليس برلمانياً صرفاً ولا رئاسياً ولا مجلسياً بالرغم من وجود الترويكا المؤثرة في اتخاذ القرارات في الشؤون العامة .
ان أي رئيس او حاكم او مختص او مراقب لا يمكنه مواجهة هذه المعضلة حالياً ، كيف السبيل لنجاح رئيسٍ للجمهورية يُعتبر حَكماً وهو ليس بحاكمٍ ليعالج الازمات المضاعَفة الجوانب خاصة اثناء المآزق الكبرى.
ان هذه المآزق تعترض اي مصلح سياسي او أي سلطة في لبنان بشكل عام. وأي رئيسٍ للجمهورية ، دون طائل ، سوف يعترضه الكثير ولكثير من هذه المشاكل عملياً خاصة من جراء المواد الدستورية المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية تحديداً. فهي بنظرنا تطرح إشكاليتن يجب معالجتهما وهما :
الصلاحيات المفقودة
الاصلاحات المنشودة
كل ذلك من اجل حماية العيش المشترك .
فالابصار متجهة إليه ( اي رئيس الجمهورية ) للمساهمة بإجتياز الصعوبات والمحن، على اعتباره الحكم ليبادر بجمع المرجعيات المختصة لتسهم بقرارات تُرسي هذا العيش المشترك كونه منتخب بالتوافق او بالاجماع. ولكنه واقعياً لا يملك صلاحيات تمكّنه من ذلك ... وهنا تكمن التعقيدات، حيث هو غير قادرٍ على القيام بهذا الدور لأنه ليس بحاكم، كونه أشبه بالقاضي دون مطرقة . إلا أن الامور تزداد تفاقماً من جراء المواد الدستورية(المادة17 والمواد من 49 الى 63 ) التي تكرر دائماً المقولة "بالاتفاق مع... رئيس الوزراء او الحكومة" في مجمل اجراءات وقرارات السلطة التنفيذية.
ان اقتسام السلطة الاجرائية هذا، تكريسٌ عمليٌ لحكم الرأسين دستورياً والترويكا عملياً، وهنا يمكن طرح التساؤل التالي : اين ومن هي المرجعية القانونية او الدستورية المخولة فضّ اي خلاف؟
لا شك هناك غياب للمرجعية الفاصلة لمعالجة اي تضارب بالصلاحيات يقع بين الرئيسين( حصل ذلك ويحصل مراراً ) فيؤدي الى الخلافات والانقسامات العامودية كما هو حاصلٌ اليوم من تعقيد للحياة السياسية على مستوى السلطة ما يحتم إنهيار النظام في اي وقت.
اما من الناحية الديمقراطية ، فالازمة ظاهرة بوضوح بسبب اعتماد ثلاثة اشكال من الديمقراطيات على مجلس الوزراء تطبيقها وفق المقتضى ازاء آلية اتخاذ القرارات:
يتخذ قراراته توافقياً وفي هذ تطبيقاً لمبدأ الديمقراطية التوافقية
اذا تعذر ذلك فبالتصويت ، أي بإعتماد مبدأ الديمقراطية العددية
اما المواضيع الاساسية فانها تحتاج الى الى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء، وفي هذا تطبيق مبدأ الديمقراطية النسبية
بالاضافة الى ذلك نرى ان النصاب القانوني لعقد الجلسات هو ثلثي أعضاء المجلس فان الاكثرية المطلقة ، اي الثلث زائد واحد ، تمسك بالقرار الحكومي ، وفي هذا خطر على الديمقراطية ( لأن الحكم بموجب الديمقراطية يستند الى النصف زائد واحد ).
كل ذلك أدّى ويؤدي الى تفاقم الازمات لدى السلطة التنفيذية دون ان يتمكن رأس هذه السلطة( رئيس الجمهورية) من اجراء المقتضى . يمكن اعتباره لا حاكماً ولا حكماً وكأنه شاهد لا يحق له بالشهادة ، وذلك استناداً الى الدستور الذي حلف اليمين على صونه .
بالاضافة الى ان القاعدة لاتخاذ القرار لدى مجلس الوزراء غير ثابته، فكيف يمكن لرئيس الجمهورية ان يسهم بأي حل او توافق او اتخاذ قرار بالاستناد على غير الثابت وهو أصلاً غير مستقر وفقاً للصلاحيات الرمزية المعطاة له. فمن اين يأتي بالحلول؟ وبالكاد يدير الازمة بسعيه الى لم الشمل والاجماع بين الاطراف بواسطة بعض الطروحات والحلول التوافقية مستنداً بالاساس الى الدستور في نصه " لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك" ( الفقرة "ي" من مقدمة الدستور ) ولكن في الواقع تطرح مسألة الشرعية جدياً عندما يعتكف او يقاطع احد الفرقاء ( الطوائف او القوى النافذة ) فيسقط منطق الشرعية الدستورية والاجماع الوطني ولم يعد بالامكان ايجاد أي حل للمسألة المطروحة، ما يستتبع غموضاً في تداول السلطة يؤدي الى غياب الاصول السياسية. وهذا مازق جديّ يعترض السلطة التنفيذية بشكل عام ورئيس الدولة بشكلٍ خاص.
ان هذا الامر ليس مستحدثاً او غريباً عن منطق الحكم في لبنان اليوم اذ انه حين اناط الدستور اللبناني سابقاَ( قبل تعديل 1990 ) السلطة الاجرائية برئيس الجمهورية ، لم يحصل الاّ ما إستوجبه الوفاق بين الاطراف ووفق مصالحهم وانتمائهم . حيث كانت تنص المادة 17 ( تناط السلطة الاجرائية برئيس الجمهورية التي يتولاها بمعاونة الوزراء وفقاً لأحكام الدستور ) والمواد من 49 الى 57 تمنح رئيس الجمهورية السلطة الإجرائية وكأنها خاصة به ولا يبقى للحكومة دستورياً سوى دور المساعدة . ولكن في الواقع كان نادراً ما يمارس الرئيس هذه الصلاحيات الواسعة وفي ظروف وهامش ضيقين ومع رؤساء جمهورية اقوياء والمثال على ذلك هو ما يلي :
عام 1952 فيتو اسلامي ضد الرئيس بشارة الخوري ، أدّى إلى عدم قبول أي مسلم بتأليف الوزارة ، فوقع البلد بأزمة وزارية .
عام 1956 فيتو اسلامي على سياسة الرئيس كميل شمعون ، ما أدّى إلى حصول ثورة 1958. أي ازمة على صعيد الدولة بكاملها .
عام 1973 فيتو إسلامي ضد حكومة أمين الحافظ ، أدّى إلى سقوط هذه الحكومة، باستقالة رئيسها نتيجة الضغوط التي تعرض لها من طائفتة .
عام 1975 فيتو إسلامي ضد اعلان حالة الطوارئ وانزال الجيش ، فازدادت الازمة تفاقماً وحصل ما هو معروف بالحرب الداخلية اللبنانية.
وكذلك الامر بالنسبة لصلاحية إقالة الوزراء أو اعتبار الوزارة مستقيلة ، في الواقع ، لم يمارس رئيس الجمهورية هذا الحق إلا نادراً وصورياً ، بحيث مُورست صلاحية الإقالة شكلياً في فترة الاستقلال مرتين فقط :
المرة الأُولى أقال الرئيس بشارة الخوري وزارة سامي الصلح بتاريخ 9 أيلول لعام 1952 ، اما في الحقيقة كان رئيس هذه الوزارة على وشك تقديم استقالته، ولكن ظروف البلد آنذاك استوجبت إعلان رئيس الجمهورية لهذه الاقالة.
المرة الثانية اعلان الرئيس سليمان فرنجية إقالة وزير الخارجية الاستاذ فيليب تقلا . لكن المراجع توضح بأن الوزير المذكور هو الذي تقدم باستقالته آنذاك.
المهم هنا هو تبيان أن رئيس الجمهورية لم يُقْدم يوماً على إقالة الوزارة أو أي وزير فيها، إلاّ شكلياً ولظروف نادرة معللة ومشروطة برضى رئيس الوزراء أو الوزير المعني بالأمر. فتصبح الإقالة مجرّد نص مستند إلى الدستور ، وشكلي ليتطابق مع الواقع العملي على الأرض . يعود سبب ذلك لأن رئيس الجمهورية عملياً بحاجة إلى دعم الطوائف الاخرى ليتمكن من ممارسة الحكم في الدولة ، هذا الدعم لا يتأمن إلا بمشاركة كل الفئات والقوى في السلطة ، بواسطة ممثلين يتمتعون بتأييد طوائفهم ، والمشاركة هي ضمانة الحفاظ على التوازن العام( ). بذلك يصبح ممثلاً لارادة الشعب اللبناني بكافة طوائفه وفئاته ومناطقه ، وليس طائفته فحسب ، على الرغم من أن مبدأ المشاركة، وفق صيغة 1943 ، قضى أن يكون رئيس الجمهورية من الطائفة المارونية .
إن دلّ ذلك على شيء، فإنه يدل على ان رئيس الجمهورية لم يتمكن آنذاك من استعمال الصلاحيات المعطاة له بالدستور وخاصة اثناء الازمات الكبرى، بداعي الحفاظ على العيش المشترك واحترام رأي او قرار أي طرف اوطائفة أساسية مارست الفيتو ضد وضعٍ معيّن. من هنا ما كان بالامكان اعتبار هذا الرئيس هو الحاكم والحكم على حد سواء في غالب الاحيان ، بالرغم من الصلاحيات الدستورية الواسعة التي اعطيت له حينها؛ ولكن دون انكار ما يتنافى مع هذا القول حيث مارس بعض الرؤساء صلاحيات واسعة في ميادين متعددة ليصح القول التالي:"إن شعبية وشخصية أي رئيس او مسؤول لأي فئة او سلطة انتمى هي التى تمنحه القوة وحرية التحرك والحكم ، اكثر مما يعطيه الدستور والاعراف والقوانين ، وكأن منطق القوة والدعم وقوّة الحجّة هي السائدة في معظم الاحوال".
نستنتج من ذلك ، انه مع صلاحيات واسعه وحصل ما تم ذكره ، فكيف الحال بعد التعديل الدستوري عام 1990 الذي جرّده من معظم صلاحياته
حيث قال
:" تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء . وهو يتولاها وفقاً لأحكام الدستور" ( المادة 17 من الدستور) – حكم برأسين او ثلاثة رؤوس مع تحدٍ ومباراة - ففي أحسن الاحوال هناك مشكلة في اتخاذ القرارات ، ولكن على ما يبدو ان الخلاف بين رئيس الجمهورية والحكومة اصبح قاعدة من قواعد الحكم فدخل الى قاموس العمل السياسي اللبناني مصطلح الاعتكاف والمقاطعة والتحالف بين مجموعات داخل الحكومة بالاضافة الى حكم الرؤوس المتعددة كما نرى اليوم. فصار العداء السلطوي يحكم بالنفوس والعقول الى حد التجريح والتشهير والتصفية المعنوية والجسدية . وغالبية التحالفات تنفرط بعد اداء المهمة ، دون ان يكون هناك قاعدة معقولة للموالاة او للمعارضة .
فكيف لرئيس الجمهورية ان يكون حكماً او حامياً للشرعية والدستور في ظل هذه الازمات ؟ فهل هو السبب ام هو جزء من الازمة ام هو الضحية او المصلح الحقيقي ؟
استناداً لما سبق ، الجواب هو لا هذا ولا ذاك فالمسؤولية جماعية داخلية وخارجية معاً، ولنا خير مثال على ذلك ما يحدث حالياً من تخطي لاعلان بعبدا وتعثّرٍ لتأليف الحكومة لأكثر من عشرة أشهر دون اي تأثير ايجابي او سلبي لرئيس الجمهورية ؟ رغم جهوده ومحاولاته ، لتغيير مجرى الاحداث الحاصلة أقلّه داخل السلطة التنفيذية وعلى صعيد الوطن بشكلٍ عام .
بالرغم من استدامة الازمات ، ينبغي التفاؤل بايجاد الحلول دائماً ، بما انه لا يمكننا الاعتماد على العمل السياسي الصحيح غير المطبّق بشكل عام حالياً، يمكن الركون الى نوعٍ من التقوى والصبر والتفاني مع الواقعية من قبل اي مرجعية او حاكم او رئيس.
وهنا لابد من القول ، رحم الله فيلسوفاً (افلاطون ) قال : "يجب على الحكّام ان يكونوا الأعرف بالوطنية والأقل انانية والأكثر حكمة وشجاعة وجدارة وعفّة ، وليس الراغبون في الحكم لأن ذلك يؤسس لحروب أهلية بين المتزاحمين " . اذ يجب ألاّ تتلاشى الدولة وأجهزتها لتنقلب الى آلة تعمل لحساب زعماء الجماعات المتنافرة والمتصارعة من أجل السلطة فحسب مع تعزيز وضعهم الداخلي على حساب المواطن ، فيضطر الافراد والمؤسسات والقوى الاجنبية الى الاتصال بهم ( اي الجماعات المتنافرة ) والتعامل معهم واعتبار الدولة لا حدود لها مع ما ينتج عن ذلك من تأليب مصالح هذه الدول على حساب الشعب الذي لا يبقى له سوى حرية الصراخ .
في الواقع ، ينبغي العمل على ايجاد حلول جدية للمشاركة الفعلية المتوازنة لرئيس الجمهورية ليكون رأس السلطة التنفيذية كونه ياتي بإرادة وتوافق الجميع وليس لشخصه او طائفتة وبهذا يُحل الجزء الأكبر من الازمة داخل السلطة التنفيذية وينعكس ايجاباً على الدولة بكاملها.
فما على المثقفين وأهل الاختصاص الا اقتناص الفرص للعب الدور البنّاء في ايجاد الحلول المناسبة بواسطة مشاريع سياسية وانمائية وغيرها ... حيث لا يعقل ان يكونوا مستقلون عن الدولة وأجهزتها او عن السلطة ، فهم مسؤولون عن القيم والحريات اقله بواسطة النقد والطروحات المجدية. ان ذلك يتطلب انطلاقة جديدة.
|