الفقرة الخامسة: مداخلة د. وسيم منصوري
إن الحديث عن موقع رئاسة الجمهورية في الدستور اللبناني، والحياة السياسية اللبنانية يطرح بالطبع إشكالية التمثيل السياسي لمختلف أطياف المجتمع اللبناني في المؤسسات الدستورية.
فبالإضافة إلى نص المادة 24 من الدستور( ) التي قسمت المجلس النيابي مناصفة ما بين المسلمين والمسحيين ونسبياً ما بين هاتين الطائفتين، ونسبياً ما بين المناطق، ونص المادة 95 التي تقسم مجلس الوزراء ووظائف الفئة الأولى على أساس قاعدة المناصفة نفسها، يأتي العرف الدستوري ليعطي للمذهب الماروني من الطائفة المسيحية موقع رئاسة الجمهورية، وللمذهب الشيعي من الطائفة الإسلامية رئاسة المجلس النيابي وأخيراً الرئاسة الثالثة للمذهب السني من الطائفة الإسلامية.
والسؤال المطروح باستمرار هو هل أن تعديل الطائف قد جعل من موقع رئاسة الجمهورية وحده موقع الحكم بين السلطات، ممّا يفرض أن يكون رئيس الجمهورية هو حكم ما بين السلطات العامة؟ أم أن الرؤساء الثلاث يقتضي أن يكونوا رؤساء توافقيين يتعاونون مع رئيس البلاد لصون السلم الأهلي والتقريب ما بين مختلف الفرقاء؟ إن جوهر وثيقة الوفاق الوطني أو ما عُرف باتفاق الطائف، لم يكن يرمي إلى إضعاف موقع يعود لطائفة معينة لصالح موقع آخر يعود لطائفة أخرى. إن جوهر هذا الإتفاق هو نقل صلاحيات السلطة الإجرائية إلى مجلس الوزراء الذي تجتمع فيه كافة أطياف المجتمع اللبناني الدينية.
بتعبير آخر، يكون مجلس الوزراء هو طاولة حوار دائمة ما بين الطوائف اللبنانية الدينية، طاولة تمنع إنتقال الخلافات من مجلس الوزراء إلى الشارع مما يشكل ضمانة وحفظاً للسلم الأهلي.
إلاّ أنّ الممارسة السياسية اللاحقة لإتفاق الطائف، والخلل في التمثيل السياسي للطوائف المسيحية نتيجة إبعاد الأقطاب المسيحية عن الساحة السياسية آنذاك أو إعتكافها أدى إلى بدء خلل فعلي في التمثيل السياسي المتمثل في مجلس الوزراء.
وإذا كان الدستور اللبناني يحاول تسوية – أو منع- خلاف ما بين طوائف دينية من خلال المادة 95 من الدستور، فإن واقع وجود أحزاب سياسية عابرة للطوائف لا يأتلف مع مضمون ومدى المادتين 24 و95 من الدستورالمذكورتين.
ولشرح ذلك، نشير الى أنّ نشوء تكتلين سياسيين كبيرين في لبنان هما 8 آذار و14 آذار، طرح بشكل جدي مسألة أن الفريق السياسي الذي يحوز على أغلبية مقاعد مجلس النواب، يقوم وحده، دون الفريق السياسي الآخر، بتشكيل الحكومة، بحيث يقوم الفريق الذي خرج خاسراً من الإنتخابات النيابية بدور المعارض من خارج المؤسسات، أو أقلّه في مجلس النواب وحده.
عليه، أصبح الخيار كالتالي: إما تطبيق مواد الدستور القائلة باحترام التمثيل الطائفي في المؤسسات وعلى رأسها مجلس الوزراء، مما يفرض وجود فعلي لكافة الطوائف اللبنانية في هذا المجلس، حتى لو كانت محسوبة على الفريق السياسي الذي لم يحز على أغلبية مقاعد مجلس النواب أو، سيكون وجود حزبين سياسيين (8 و14 آذار) باباً لبدء تطبيق عملي لإلغاء الطائفة السياسية وبالتالي إهمال تمثيل إحدى الطوائف أو المذاهب التي خسرت الإنتخابات النيابية.
ولتوضيح الصورة بالكامل، فإن فريق 14 آذار لا يتمتع بتمثيل شيعي متكامل وبالمقابل لا يتمتع فريق 8 آذار بتمثيل سني متكامل. أو، فإن غالبية السياسية الشيعية هي خارج فريق 14 آذار والأغلبية السياسية السنيّة خارج فريق 8 آذار، مع التأكيد على وجود مهم لكلتا الطائفتين في كلا التكتلين السياسيين.
هذا الواقع لا يجيب عنه الدستور اللبناني المبني على أساس المناصفة ما بين المسلمين والمسيحيين، ولا يتطرق لإشكالية التمثيل الإسلامي-الإسلامي إلاّ عرضاً. فهذه الحدّة في الإنقسام السياسي ما بين الطائفتين الإسلاميتين، والحرص العام على السلم الأهلي وعلى عدم تحويل الخلاف السياسي إلى خلاف مذهبي، فرض على الطائفة المسيحية واقع أن تكون ما بين هاذين المذهبين، أي أن يكون رئيس الجمهورية وسطياً.
وعلى هذا الأساس، سنحاول فيما يلي تفصيل ما تقدم من خلال تقسيم بحثنا إلى بندين، الاول يتطرق إلى أزمة تشكيل السلطة التنفيذية ودور رئيس الجمهورية فيها وأما الثاني فيتطرق إلى دور رئاسة الجمهورية وتأثيره على سير الحياة السياسية.
أولاً: رئاسة الجمهورية وصعوبة تكوين السلطة التنفيذية
إن تكوين السلطة التنفيذية في لبنان أصبح مرحلة صعبة من التسويات السياسية والمفاوضات، الأمر الذي يطرح تساؤلات كثيرة حول موقع رئاسة الجمهورية وشروط إنتخاب الرئيس من جهة، وحول دور رئيس الجمهورية في التكليف والتأليف من جهة ثانية.
1- إنتخاب رئيس الجمهورية في ظل الأزمة السياسية:
لم يتوسع الدستور اللبناني في تحديد آلية إنتخاب الرئيس اللبناني بحيث أن المادة 49 من الدستور تبقى الأساس لانتخاب الرئيس العتيد . وتتطرق المادة 49 إلى نقاط ثلاث، كلّها كانت محور تجاذبات سياسية أثرت على موقع الرئاسة:
-
النقطة الأولى
: شروط انتخاب الرئيس ومن لا يحق إنتخابه.
-
النقطة الثانية
: مدة الرئاسة: ما بين التمديد التجديد.
-
النقطة الثالثة
: جلسة الإنتخاب: ما بين النصاب والإقتراع.
وفيما يلي سنعمد إلى مناقشة هذه النقاط الثلاث:
-
النقطة الأولى:
شروط إنتخاب الرئيس ومن لا يحق له في الترشح:
إن هذه النقطة تثير إشكاليات عدة، لعل أولها هو الترشح لموقع رئاسة الجمهورية. فبمراجعة الدستور اللبناني والنظام الداخلي لمجلس النواب، لا يوجد نص حول كيفية الترشح وآلياته. النص الوحيد الموجود في المادة 49 من الدستور هو أنه يقتضي أن يتوفر في شخص الرئيس الشروط التي تؤهله للنيابة وغير المانعة لأهلية الترشيح. ولعل أن تنظيم مسألة الترشح للإنتخابات الرئاسية هو موضوع مهم لأنه يرتبط بحقوق المرشحين في الظهور الإعلامي في حال عطفنا الترشح للرئاسة على الترشح للنيابة.
فكما هو معلوم، فإن قانون الإنتخابات الأخير ينص على مبدأ المساواة ما بين المرشحين في الظهور الإعلامي، فإذا كانت آلية الإنتخابات غير واضحة، كذلك تكون كل الإجراءات اللاحقة لهذا الترشح.
إلّا أن الإشكالية التي تطرح باستمرار تتعلق بالفقرة الأخيرة من المادة 49 التي أضيفت بعد إتفاق الطائف والتي تمنع- نظرياً: "إنتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى، وما يعادلها في جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة وسائر الأشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ إستقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم أو تاريخ إحالتهم على التعاقد".
وهذا النص لم يتم الإلتزام به مراراً، فكان التعديل الدستوري في 13 تشرين الأول 1998، الذي سمح بإنتخاب قائد الجيش آنذاك العماد اميل لحود الترشح لرئاسة الجمهورية على أثر هذا التعديل لتبدأ ولايته في 24 تشرين الثاني 1998.
وهذا النص كذلك منع عدد من الأشخاص من الترشح، على الرغم من أن موقعاً كموقع حاكم مصرف لبنان، لم يتم حسمه علناً على أنه يدخل ضمن فئات التمانع مع الترشح للرئاسة.
إلا أن الأمر الأكثر خطورة، هو أنه في حالات الأزمات السياسية الحادة، قد تمّت مخالفة هذا النص الصريح، بحيث أنه تم إنتخاب الرئيس ميشال سليمان خلافاً له ودون أي تعديل كان. مع الإشارة إلى أننا نؤكد على أن أي تعديل من أجل شخص واحد هو من حيث المبدأ غير مقبول، لأن شخصنة الحياة السياسية هو أمر لا يتآلف مع المبادئ الديمقراطية. وكان الرد الوحيد على مسألة إنتخاب الرئيس سليمان خلافاً للنص، هي الظروف الإستثنائية التي كانت تمر بها البلاد( )، والتي فرضت تسويات بحجم هذه التحديات.
-
النقطة الثانية:
مدة الرئاسة ما بين التمديد والتجديد:
حددت المادة 49 من الدستور مدة ولاية الرئيس لست سنوات ولا يجوز إعادة إنتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته. إلّا أنه ومنذ عهد الإستقلال الأول، جرى تعديل لهذا النص لتجديد ولاية الرئيس الأول للبنان ما بعد الإستقلال. وجرى تعديل ثانٍ بتاريخ 29/1/1995 لتمديد ولاية الرئيس الراحل إلياس الهراوي وجرى تعديل ثالث بتاريخ 3 تشرين الأول 2004 لتمديد ولاية الرئيس إميل لحود لثلاث سنوات أيضاً. واليوم أيضاً، على الرغم من رفض رئيس الجمهورية ميشال سليمان المعلن عن رفضه التمديد، لا يمر يوم إلا يتم التداول في الكواليس حول طرح هذا الأمر كخيار لمنع الفراغ في سدة الرئاسة!
ولعل الحل لهذه الإشكالية، والتي جعلت من الإستثناء قاعدة، هو أن يتم تعديل النص الدستوري بأن تكون الولاية محددة لخمس سنوات مثلاً قابلة للتجديد مرة واحدة.
إن مساومة الرئيس خلال مدة ولايته، حول تمديد يضعف موقع الرئاسة ويضعه رهن التسويات السياسية، ويمنعه من لعب دور حكم قوي وفاعل في الحياة السياسية.
-
النقطة الثالثة:
جلسة الإنتخاب: ما بين النصاب والإقتراع:
لا يهدف بحثنا الحاضر إلى دراسة آلية إنتخاب الرئيس بتفاصيلها، ولكن الجدل الدستوري حول تفسير المادة 49 من الدستور، يرافق كل انتخاب لرئس جديد. والجدل هو حول نصاب جلسة الإنتخاب. هل أن أغلبية الثلثين هي نصاب الجلسة الأولى فقط، أم نصاب كل جلسات انتخاب الرئيس؟
وإذا كان عرفاً دستورياً يتبلور حول أن نصاب الجلسة هو الثلثين لكل جلسات الإنتخاب، فإن الفريق السياسي الذي لا يملك أغلبية تخوله إختيار الرئيس، يحاول منع نصاب إنعقاد الجلسة الأولى، وصولاً للإتفاق على شخص الرئيس من خارج مجلس النواب، عن طريق التسويات السياسية.
وبغض النظر أيضاً عن الآراء السياسية التي تنتقد أو تبرر هذا الإمتناع عن حضور جلسات إنتخاب الرئيس، فإن ما هو أكيد أن أغلبية الثلثين تعني أن الرئيس لن يكون رئيساً لطائفة، بل رئيسا توافقيا، ترضى به كل الكتل الدينية والسياسية.
مما يطرح تساؤلاً جدياً حول التمثيل المسيحي لرئيس الجمهورية. والجواب على هذا يكون في أن الرئيس ليس ممثلاً لطائفة، بل ممثلاً لوطن. ولكن من أجل عدالة التمثيل، يقتضي كذلك أن يكون الرئيس مثل باقي الرؤساء، فرئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، هما كذلك رؤساء توافقيين( )، وهذا هو مضمون إتفاق الطائف. لعل عدم التوافق المسيحي على شخص الرئيس هو ما يضعف رئيس الجمهورية، ولكن من المؤكد من أن رئيس مجلس النواب والوزراء، وإن كانوا يمثلون طوائفهم، فهم أيضاً رؤساء مقبولين لدى باقي الطوائف، وإلا لما كان بالإمكان انتخابهم كذلك.
2- رئيس الجمهورية ما بين التكليف والتأليف:
لا بد من التمييز ما بين التكليف والتأليف لأن مدى صلاحيات رئيس الجمهورية ليست نفسها في كلتا الحالتين:
أ-
التكليف:
تطرح صلاحية رئيس الجمهورية المنصوص عنها في الفقرة الثانية من المادة 53 من الدستور تساؤلات عدة. فإذا كان من الصحيح أن لا مشكلة ظاهرية تعتري هذا النص في حالات الوفاق السياسي، فإن الأمر يكون بخلاف ذلك خلال فترة الأزمات السياسية. وفيما يلي نتطرق إلى بعض النقاط التي لم يتم إيجاد إجابات عنها:
تحديد موعد بدء الإستشارات
كيف يتم تحديد تاريخ بدء الإستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس الحكومة الجديد؟
إنّ مسألة تحديد بدء الاستشارات قد تكون بالغة الأهمية. فالتوقيت قد يغير من حظوظ فريق سياسي. والتوقيت يعود أمر تحديده لرئيس الجمهورية، وإن كان كل الرؤساء بعد الطائف قد التزموا مهلاً سريعة نسبياً للقيام بالإستشارات.
نتيجة الإستشارات:
تجدر الإشارة إلى أن إلزامية الإستشارات وإلزامية نتائجها هي الآخرة لم تكن موضع تجاذب. فقد التزم رؤساء الجمهورية باستمرار بقرار الأغلبية النيابية. ولكن هناك حالات لم تحصل لغاية اليوم ولكنها تطرح تساؤلات عدة نوردها كالتالي:
الحالة الأولى:
ما هي حدود صلاحيات رئيس الجمهورية إذا لم يحصل أي من المرشحين لرئاسة الحكومة على الأغلبية المطلقة من أصوات النواب، بل حاز على الأغلبية النسبية من هذه الأصوات، هل يقتضي إعادة الإستشارات؟ (مع إمكانية تكرار السيناريو نفسه عشرات المرات في ظل إنقسام سياسي حاد) أم يعود لرئيس الجمهورية حق الخيار في هذه الحال؟
ولو فرضنا هؤلاء أن الرئيس إختار الإمكانية الأخيرة (وهو ما نراه غير ممكن) هل يكون ملزماً باختيار رئيس يمثل الطائفة السنية الكريمة أم يختار على أساس آخر؟
الحالة الثانية:
هي إختيار رئيس مكلف لا يمثل طائفته: هل يكون الرئيس ملزماً بالتكليف بناءً على الإستشارات النيابية؟ أم يكون له حق إعمال نص الفقرة "ي" من مقدمة الدستور، وبالتالي اعتبار أنه من غير الشرعي تكليف شخص لا يمثل الطائفة التي ينتمي إليها، ويرفض تالياً تسمية هذا الشخص حفاظاً على السلم الأهلي؟
الحالة الثالثة:
تتعلق بصلاحيات رئيس المجلس النيابي، الذي يقتضي أن يتم التشاور معه قبل تسمية رئيس الحكومة المكلف. فما مدى هذا التشاور؟ هل هو شكلي أم لا؟.
من حيث المبدأ، فإن كل الشكليات الدستورية يقتضي إحترامها. وبالتالي لا يمكن تجاوز مسألة التشاور هذه، ولكن ما لم يفسره الدستور، ولحسن الحظ لم يطرأ إشكالية حوله في الحياة العملية، هي مسألة ومدى مفهوم التشاور هذا. فإذا كان لا يمكن التكليف إلا بعد التشاور مع رئيس المجلس النيابي، فهل يكون الرئيس ملزماً بمضمون هذه المشاورة؟
كلها مسائل لا تطرأ وتطفو إلا في حالات الأزمات السياسية. ونرى أن التشاور إلزامي، إلّا أن نتيجة الإستشارات النيابية هي كذلك ملزمة لكلا الرئيسين.
ب-
في التأليف بعد التكليف
، يبدأ الرئيس الكلف المشاورات النيابية الملزمة مع الكتل النيابية تمهيداً لتشكيل الحكومة. بالطبع لا يمكن للرئيس المكلف الإلتزام بطلبات كافة الكتل، ولكن يقتضي عليه العمل على تقريب وجهات النظر تمهيداً لتشكيل حكومة وحدة وطنية تنسجم مع روحية التعديلات الدستورية لما بعد الطائف.
وهنا تبرز صلاحية رئيس الجمهورية مرة أخرى. ففي حالات الأزمات السياسية، يكون دور رئيس الجمهورية محوري وأساسي، لأنه وحده يستطيع قبول أو رفض أية تشكيلة حكومية بحسب ما يراه مناسباً للبلاد والعباد.
إلا أن مدى صلاحية الرئيس هي إذاً محددة بالقبول أو بالرفض، لأن المفاوضات عادة ما تجري مع رئيس الحكومة المكلف.
وإذا كان من مصلحة رئيس البلاد أن يتم الإنتهاء من تشكيل الحكومة سريعاً، كي لا يمضِ جزءاً كبيراً من عهده بانتظار تشكيل حكومة، فإن رئيس الحكومة المكلف لا يشعر بضيق الوقت لتشكيل حكومته بشكل عام، إلا إذا كان في آخر العهد بالطبع كما هو الحال مع تأخر تشكيل حكومة الرئيس تمّام سلام، والتي استغرق تشكيلها حوالي أحد عشرة شهراً، بحيث لم يتبق من ولاية رئيس الجمهورية عند تشكيلها سوى ثلاثة أشهر.
ولا يكون لرئيس الجمهورية صلاحية إلزام رئيس الحكومة المكلف لا بالإعتذار ولا بالتأليف. وهنا مرة أخرى يبرز دور رئيس الجمهورية، كوسيط (أكثر مما هو حكم هنا) ليحاول تقريب وجهات النظر للوصول إلى التأليف. ويستعيد دوره كحكم ما بين القوة السياسية برفضه إصدار أية تشكيلة إذا وجد أنها يمكن أنهل لن تحصل على ثقة البرلمان أو أن تؤدي إلى خلل بالسلم الأهلي.
ثانياً: دور رئيس الجمهورية في التأثير على سير الحياة السياسية
عند تشكيل الحكومة، تبدأ الحياة السياسية بالسير بشكل طبيعي أم متعثر يحسب الأزمات السياسية في البلاد. ولرئيس الجمهورية صلاحياته المتعلقة بالحكومة، وله دور أساسي في هذا المجال، وله كذلك دور آخر، وإن كان أقل تأثيراً، على البرلمان وعمله.
1- رئيس الجمهورية والحكومة اللبنانية: صلاحيات شكلية؟:
إن جميع صلاحيات رئيس الجمهورية المتعلقة بالحكومة، مرتبطة بشكل وثيق برئيس الحكومة، الذي يشارك الرئيس بأغلب الأعمال.
وبعيداً عن مسألة إصدار المراسيم والقوانين التي تلزم رئيس الجمهورية بمهل محددة( )، ولا تلزم رئيس الحكومة بالمقابل بمثل هذه المهل، فإن مهام رئيس الجمهورية تصبح أكثر تعقيداً في فترات الأزمات السياسية لا سيّما فيما يتعلق بالأمور التالية:
أ- حضور وكيفية إدارة جلسات مجلس الوزراء:
إن الفقرة الأولى من المادة 53 من الدستور تحدّد بشكل واضح حق رئيس الجمهورية بترأس جلسات مجلس الوزراء عندما يشاء، ولا يكون له الحق بالتصويت.
ولكن، ما هو معنى هذه الصلاحية؟ فمن حيث المبدأ، لا تعقد جلسة مجلس الوزراء دون حضور رئيس مجلس الوزراء، ولكن العكس صحيح، أي إن غياب رئيس الجمهورية لا يؤثر على صحة إنعقاد مجلس الوزراء.
بل في الأزمات السياسية الحادة، كتلك التي مرت في عهد الرئيس إميل لحود مع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، رفض هذا الأخير الذهاب إلى قصر بعبدا عندما يترأس الرئيس الجلسات، وتم "إستحضار" مقر خاص لمجلس الوزراء في وسط بيروت، وإن كان غير مؤهل تقنياً، إلا أنه تم إستخدامه كوسيلة ضغط على رئيس الجمهورية.
والأمر لا يتوقف عند حدود حضور الجلسات وانعقادها، بل إن غياب وجود نظام داخلي لمجلس الوزراء لا يعطي رئيس الجمهورية الأدوات لفرض وجوده في الجلسات. فإذا كان الرئيس يتمتع بكامل صلاحياته خارج فترات الازمات السياسية، فإنه في حال خلافه مع رئيس الحكومة، لا يكون له مساحة واسعة من الصلاحيات. فإن مجرد عدم الإلتزام يترتيب مواد جدول الأعمال، أو طرح تأجيل البت بإحدى نقاط البحث إلى جدول جلسة أخرى لمجلس الوزراء قد يشكل أزمة سياسية لا يستطيع رئيس الجمهورية وحده الوقوف بوجهها. وبالتالي يقتضي العمل على وضع نظام داخلي لمجلس الوزراء، يحدد صلاحيات رئيس الجمهورية عند ترؤس الجلسات.
ب- تحضير جدول الأعمال والأمور الطارئة:
إن تحديد جدول أعمال مجلس الوزراء ورد في الفقرة السادسة من المادة 64 المتعلقة بتحديد صلاحيات رئيس مجلس الوزراء. بحيث أن هذا الأخير هو صاحب الصلاحية في دعوة مجلس الوزراء للإنعقاد ووضع جدول أعماله. وقد أثارت الجملة الأخيرة من هذه الفقرة جملة تفسيرات وإشكالات سياسية، بحيث ورد فيها "ويطلع رئيس الجمهورية مسبقاً على المواضيع التي يتضمنها وعلى المواضيع الطارئة التي ستبحث". ومرة أخرى، لم يشكل ما تقدم أية مشكلة في فترات الإتفاق السياسي، على عكس الحال عندما كان يوجد خلاف ما بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. بحيث جرى إعتماد تفسير هذه الجملة بأن لرئيس الجمهورية حق الإعتراض على بعض البنود، وإعادة ترتيب جدول الأعمال بالتوافق مع رئيس الحكومة. إلا أن الممارسة العملية تؤكد أن مدى تأثير رئيس الجمهورية يبقى منقوصاً مقارنة مع رئيس الحكومة.
بالمقابل فقد أعطت الفقرة الحادية عشر من المادة 53 من الدستور الحق لرئيس الجمهورية بأن "يعرض أي من الأمور الطارئة على مجلس الوزراء من خارج جدول الأعمال".
وهذه الصلاحية هي مهمة جداً، لأنها تعطي الرئيس حق إضافة أي من الأمور التي يراها طارئة ولا تدخل من ضمن رقابة رئيس الحكومة عليها. وإن كانت الممارسة العملية أفضت إلى مناقشة كل الأمور الطارئة وغير الطارئة مع رئيس مجلس الوزراء قبل عرضها على مجلس الوزراء.
ج- إنعقاد جلسات مجلس الوزراء
إذا كانت الفقرة السادسة من المادة 64 من الدستور تعطي لرئيس الحكومة الحق بأن يدعو مجلس الوزراء إلى الإنعقاد، وإذا عطفنا هذا النص على نص الفقرة الخامسة من المادة 65 التي تنص على أن يجتمع مجلس الوزراء دورياً في مقر خاص: " فهذا يعني أن رئيس مجلس الوزراء يدعو مجلس الوزراء للإنعقاد الدوري، أما دعوة مجلس الوزراء للإنعقاد بصورة إستثنائية فهي صلاحية عائدة لرئيس الجمهورية بالإتفاق مع رئيس الحكومة( ). ولكن مرة أخرى، وفي فترات الأزمات السياسية، لم يستطع رئيس الجمهورية ممارسة هذه الصلاحية كما تم النص عليها، بحيث جرت الدعوة إلى إنعقاد مجلس الوزراء إستثنائياً مرات متعددة، ليس فقط دون أن يوجه الدعوة رئيس الجمهورية، بل برفض منه إنعقادها.
د- أثر غياب رئيس الجمهورية على مجلس الوزراء في مقابل غياب رئيس الحكومة:
نقصد في هذا المجال عدد من حالات الغياب غير المنصوص عليها في الدستور وحالات أخرى جرى النص عليها.
فيما يتعلق بالحالات غير المنصوص عليها في الدستور، سنتطرق إلى إنسحاب رئيس الجمهورية من جلسة مجلس الوزراء إعتراضاً على سير الجلسات مثلا، وحالة إعتكاف رئيس الجمهورية عن حضور الجلسات.
فإذا كان رئيس الجمهورية حاضراً لجلسات مجلس الوزراء، فإنه يستطيع رفع الجلسة إعتراضاً على سير الجلسات، وبذلك يقتضي نظرياً أن ترفع الجلسة إلى جلسة أخرى، ولكن لا يمكن مقارنة صلاحية رئيس الجمهورية لهذه الجهة مع صلاحيات رئيس الحكومة. لأن رئيس الحكومة يستطيع في جلسات لاحقة تمرير ما يريد بحضور الرئيس أم لا. بالمقابل لا يستطيع رئيس الجمهورية عقد أي من جلسات مجلس الوزراء دون حضور رئيس الحكومة.
وكذلك، في حال إعتكف رئيس الجمهورية إعتراضاً عن حضور جلسات مجلس الوزراء، فهذه الجلسات تسري بشكل طبيعي دون حضوره، ولا يستطيع حتى رفض توقيع مراسيمها، لأنها تسري بعد مرور خمسة عشر يوماً من عرضها عليه حتى لو لم يوقع عليها، وبالمقابل فإن رئيس الحكومة باعتكافه، يستطيع وقف جلسات مجلس الوزراء بشكل كامل.
أما فيما يتعلق بالحالات المنصوص عليها في الدستور، فعند إنتهاء ولاية رئيس الجمهورية تتولى الحكومة مهام الرئيس، وتبقى جلساتها وأعمالها منعقدة بشكل كامل غير منقوص. بالمقابل فإن إستقالة رئيس الحكومة، لا تسمح له بالبقاء في منصبه لغاية تعيين بديل عنه وحسب، بل أكثر من ذلك، فهو يبقى ممارساً لصلاحياته بحدود تصريف الأعمال، وإذا طالت فترة تصريف الأعمال يمكن لمجلس الوزراء الإنعقاد إستثنائياً أيضاً.
أما لجهة إتهام رئيس الجمهورية بحسب المادة 60 من الدستور، واتهام رئيس الحكومة بموجب المادة 70 من الدستور، فإنه في كلتا الحالتين، ينص الدستور على أنه في حال الإتهام، يكف الرئيس المتهم عن العمل. فرئيس الجمهورية يكف عن العمل وتبقى سدة الرئاسة خالية، وكذلك في حال اتّهام رئيس الحكومة، فإنه يكفّ عن ممارسة العمل.
إلا أن الدستور كان صريحاً في حالة رئيس الجمهورية بحيث نص على أن صلاحيات الرئاسة في هذه الحالة، تنتقل وكالة إلى مجلس الوزراء، وبالتالي تبقى المؤسسات عاملة بغياب رئيس الجمهورية.
أما في حالة إتهام رئيس الحكومة، وبغياب وجود نظام داخلي لمجلس الوزراء، فلا يبدو واضحاً مصير مجلس الوزراء. ولعل ظاهر النصوص، تجعل هذا الملف معلقاً لحين البت باتهام رئيسه، فلا ينعقد مجلس الوزراء إلا بعد إنتهاء الإتهام. وهذا الأمر غير منطقي ويقتضي بالطبع تجاوزه.
2- رئيس الجمهورية والمجلس النيابي في ظل الأزمة السياسية:
مرة أخرى، يتبين أن رئيس الجمهورية لا دور فعال له، إلّا في حدود ضيقة فيما يتعلق بسير العمل في مجلس النواب.
فالصلاحية الخاصة به هي توجيه رسالة إلى المجلس النيابي، أما باقي الصلاحيات فلا يمارسها منفرداً.
فبالرجوع إلى نص الفقرة العاشرة من المادة 53 من الدستور، يستطع رئيس الجمهورية عندما تقتضي الضرورة توجيه رسائل إلى مجلس النواب. وقد فسّر النظام الداخلي لمجلس النواب هذه المسألة وميّز ما بين الرسائل المباشرة، التي توجه إلى مجلس النواب، والتي ينتج عنها دعوة المجلس للإنعقاد خلال ثلاثة أيام من تاريخ إبلاغه عنها الرئيس، ويتم إستماع المجلس للرسالة، وترفع الجلسة 24 ساعة وبعدها تستأنف الجلسة لمناقشة مضمون الرسالة واتخاذ الموقف بشأنها.
وما بين الرسالة التي توجه إلى المجلس بواسطة رئيسه، فهنا يدعو رئيس المجلس للإنعقاد خلال ثلاثة أيام لمناقشة مضمون الرسالة واتخاذ الموقف المناسب.
وفي كلتا الحالتين، فإن هذا الأمر هو معنوي، لأن لا تأثير مباشر للرئيس على النواب الذين، وخصوصاً خلال الأزمات السياسية، يبقون متشبثين بإرادة الحزب السياسي الذي يتبعون له.
اذاً ما تقدم يرسم الصلاحيات التي يمارسها رئيس الجمهورية منفرداً. أما باقي الصلاحيات، فلا يمارسها رئيس الجمهورية منفرداً وسنوردها تباعاً:
طلب إعادة النظر بالقانون:
على الرغم من أن هذه الصلاحية مرتبطة يقسم رئيس الجمهورية بالحفاظ على الدستور36، وعلى الرغم من أنها تسمح له من حيث المبدأ الحرص على أن التشريع منسجم مع الدستور37، وعلى الرغم من أنه لا يجوز أن يُرفض طلبه، يبقى متوجباً على رئيس الجمهورية إطلاع مجلس الوزراء قبل أن يطلب من مجلس النواب إعادة النظر بالقانون38.
وهنا يصبح بحل في إصدار القانون إلى أن يتم إقرار القانون ومناقشته وذلك بالأغلبية المطلقة من الاعضاء الذين يؤلفونه قانوناً.
ولولا موجب إطلاع مجلس الوزراء، والذي لا يستطيع رفض طلب الرئيس، لكانت هذه الصلاحية حرّة تماماً من أي مرجع آخر. وبكل حال نرى أنه يقتضي إعتبار هذه الصلاحية عائدة للرئيس منفرداً، واعتبار تبليغ مجلس الوزراء برغبته رئيس الجمهورية بإعادة النظر بقانون هي مسألة شكلية بحتة.
حل المجلس النيابي:
لم يعد قرار حل المجلس النيابي عائداً لرئيس الجمهورية، بل أصبح قراراً يتخذ في مجلس الوزراء، بناء على طلب من رئيس الجمهورية ولأسباب أصبحت محصورة منذ إتفاق الطائف.
بالمقابل، لا يمكن حل مجلس النواب إلا بناء على طلب رئيس الجمهورية. إذاً، فإن تقدير توافر الأسباب القانونية لحل مجلس النواب من جهة، واتخاذ القرار السياسي بحل المجلس يعود لرئيس الجمهورية، أما تنفيذ هذا القرار وجعله نافذاً فيعود لمجلس الوزراء.
تأجيل إنعقاد المجلس:
من المجمع عليه فقهاً، أن نص المادة 59 من الدستور، المتعلقة بتأجيل إنعقاد المجلس لا محل لها للتطبيق في النظام السياسي والدستوري اليوم. فمنذ وقت طويل إعتبرت هذه المادة منقضية لأنها مأخوذة من النظام الملكي البلجيكي. ولكن لم يتم إلغاء هذه المادة في النصوص الدستورية، ولم يعمد الرئيس ميشال سليمان إلى اللجوء إليها على الرغم من أنه لو لجأ إليها لاستطاع منع التمديد للمجلس النيابي الحالي، الأمر الذي كان يعارضه بشدة.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن رئيس الجمهورية ليس له أي تأثير عملي على جلسات إنتخابات رئاسة الجمهورية، لا رئيساً ولا مرشحاً، وهو يستطيع التأثير على المجلس النيابي من خلال مراجعة المجلس الدستوري للطعن بالقوانين التي يراها غير دستورية.
في الختام، نرى أن رئيس الجمهورية هو سلطة أساسية يقتضي العمل على تعزيز صلاحياته.
إن تطور النظام السياسي اللبناني نحو الثنائية الحزبية، والإنقسام الحاد الذي يرافق هذا التطور هو أمر طبيعي في كل البلاد الديمقراطية، بحيث أن الخلاف في ما بين الأحزاب السياسية يكون واضحاً وقاسياً في بداياته، ولكنه لا يلبث إلا وأن يتضاءل ليصبح من الصعب التمييز ما بين إيديولوجية الأحزاب التي تتحول إلى ماكينات إنتخابية.
إن مرحلة المرور من إنقسام حزبي حاد إلى إنقسام حزبي معتدل يحتاج إلى وجود رؤساء توافقيين، ويقصد بذلك الرؤساء الثلاث، الذين يستطيعون، وإن كان لهم انتماء سياسي وديني، أن يعملوا على تهدئة الخطاب السياسي وتلطيفه.
وعلى رأس هؤلاء رئاسة الجمهورية، كون رئيس الجمهورية من خلال آلية انتخابه الدستورية يُفترض أن يكون رئيساً توافقياً لكل اللبنانيين، وبالتالي فإن بلورة دور الحكم الفاعل للرئيس لا يمكن سوى أن ينعكس تطوراً إيجابياً في الحياة السياسية اللبنانية.
واذا كان ثمة حديث متكرر حول ضرورة إعادة النظر بصلاحيات الرئيس وطلب تعديل الدستور للوصول لذلك، فإنّ الواقع هو أنه يقتضي البدء بتطبيق الصلاحيات التي نص الدستور عليها، وإلّا لتكررت التعديلات وتكاثرت وبقي الرئيس دون صلاحيات.
|