الفقرة الثانية : كلمة رئيس المجلس الدستوري د. عصام سليمان
العلاقة بين النّص الدستوري والممارسة السياسية علاقة جدلية، يتوقف عليها اداء المؤسسات الدستورية ومصير النظام السياسي. فالنّص الدستوري يحدد المبادئ والقواعد والآليات التي تحكم الممارسة السياسية، في إطار المؤسسات الدستورية، ومن المفترض ان يقود النّص الى ممارسة سياسية، ينتظم معها اداء المؤسسات الدستورية ويتفعّل، لكي تستطيع ان تقوم بالمهام المناطة بها، نظراً لما لهذه المهام من أثر على مختلف مؤسسات الدولة ومرافقها وقطاعاتها، وبالتالي على المواطنين والمجتمع.
يتأثر النّص الدستوري بالتجارب التي مرت بها الأنظمةُ الدستورية وأدت الى اعتماد مبادئ وقواعد ثابتة لا غنى عنها في أي نظام، كما يتأثر بالمعطيات الموضوعيّة والذاتيّة، فلكل دولة تركيبتها المجتمعية، ولكل شعب نظام قيم وخصوصيات لا بدّ من أخذها بالاعتبار عند صياغة الدساتير، والتوفيق بينها وبين المبادئ والقواعد الدستورية التي جاءت نتيجة تجارب طويلة، أكدت ان اداء المؤسسات الدستورية لا يستقيم الا في اطارها.
أما الممارسة السياسية، وهي لا تقل أهمّية عن النّص الدستوري، فينبغي ان تنضبط بالنّص، لأن الممارسة السياسية اذا ما خرجت عن النّص، يضطرب اداء المؤسسات الدستورية، والتمادي في هذا المجال يقود الى مآزق تُشلُّ معها المؤسسات الدستورية، فيصيب العطب مختلف مرافق الدولة وقطاعاتها.
إن العوامل المؤثرة في الممارسة السياسية عديدة، فالانسان هو من يمارس السياسة، ويتلقى نتائجها ويتفاعل معها، ويشكّل بالتالي محورها، ولكل إنسان تكوين نفسي ونمط تفكير وذهنيّة معيّنة ومصالح محدّدة، وبيئة اجتماعية ينتمي اليها، كل ذلك يؤثر في العمل السياسي، وقد يَدفعه الى الانحراف عن المبادئ والقواعد الدستورية، لذلك تلجأ الأنظمة الدستورية الى اعتماد ضوابط للّعبة السياسية، غير أن فاعلية هذه الضوابط تبقى موضعَ جدلٍ نظراً لتعقيدات الواقع السياسي، وتشابك العناصر الفاعلة فيه. والممارسة السياسيّة من ناحية اخرى، قد تقود الى تعديل النّص او تغييره بما يؤدّي الى تطوير اداء المؤسسات، او الى تطويع النّص لصالح الممارسة المتفلّتة من الضوابط الدستورية، لجعل النّص منسجماً مع الممارسة. فالأنظمة الدستورية تطورت في العديد من الدول تحت تأثير الممارسة، كما ان الممارسة في بعض الدول أدت الى تقهقر الأنظمة السياسية.
وعندما قال العلامة الفرنسي Léon Duguit، أن قيمة المؤسسات من قيمة من يتولى شؤونها Les institutions valent ce que valent les hommes، كان يفترض بأن النص على درجة متقدمة من الكمال، والمسؤولية تقع على الممارسة.
إن البحث في صلاحيات رئيس الجمهورية يرتبط بالبحث في تجربتنا السياسية، وتحديداً في دور الدولة في مجتمع تعددي، وما ينبغي ان تكون عليه الممارسة السياسية لكي تستجيب لما يطمح اليه اللبنانيون من عيشهم المشترك.
وعندما قال العلامة الفرنسي Léon Duguit، أن قيمة المؤسسات من قيمة من يتولى شؤونها Les institutions valent ce que valent les hommes، كان يفترض بأن النص على درجة متقدمة من الكمال، والمسؤولية تقع على الممارسة.
إن البحث في صلاحيات رئيس الجمهورية يرتبط بالبحث في تجربتنا السياسية، وتحديداً في دور الدولة في مجتمع تعددي، وما ينبغي ان تكون عليه الممارسة السياسية لكي تستجيب لما يطمح اليه اللبنانيون من عيشهم المشترك.
لقد بيّنت التجارب التي مررنا بها ان السواد الأعظم من اللبنانيين متشبث بالعيش المشترك، على الرغم من الصراعات الدامية التي عصفت في ما بينهم، واللجؤ الى إثارة العصبيات الطائفية والمذهبية لإغراض محض سياسية لا علاقة لها سوى بمصالح ضيّقة. فالعيش المشترك هو تعبير عن ارادة وطنية جامعة، تقوم على اقتناع اللبنانيين بأن عيشهم المشترك يعود عليهم بالخير جميعاً. وقامت الدولة على أساس ميثاق العيش المشترك، ونشأ نظامها وتطور في إطار التوفيق بين المبادئ والقواعد والآليات المعتمدة في الأنظمة البرلمانية من جهة، ومقتضيات العيش المشترك من جهة أخرى، فقام نظامنا البرلماني على أساس المشاركة الطوائفية في السلطة، غير ان العيش المشترك والمشاركة الطوائفية في السلطة لا يشكلان هدفاً بذاته، انما وسيلة لبناء دولة، ترسخ وحدتها وتوفر الأمن والاستقرار وشروط العيش الكريم لأبنائها، على شتى انتماءاتهم الطائفية والمذهبية والفئوية. فالمواطن هو الغاية، ولا يجوز ان يتحول العيش المشترك والمشاركة الطوائفية الى غاية على حساب مصلحة المواطن والوطن.
إن دور الدولة في مجتمع تعددي يفوق بكثيرٍ دورها في المجتمعات المتجانسة. فالدولة في المجتمعات التعددية ليست مجرد كيان حقوقي وسياسي ناظم للعلاقات بين المواطنين من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة ثانية، وبين مؤسسات الدولة من جهة ثالثة، بهدف توفير الأمن والاستقرار وشروط العيش الكريم للمواطنين، انما هي كيان حاضن للمجتمع التعددي، هدفه الأساسي الحفاظ على وحدته وترسيخها، كون الدولة تقوم فيه على جدلية العلاقة بينها وبين الطائفة، فتقوية الانتماء الوطني وتقدمه على ما عداه من انتماءات شرط أساسي لترسيخ وحدة المجتمع التعددي، وتعزيز وجود الدولة الحاضنة له. ما يتطلب حنكةً وحكمة ودراية ورؤية في ادارة الشأن العام في المجتمعات التعددية، وترفّعاً وسياسات تعتمدها الدولة في مختلف المجالات، بهدف إشعار المواطنين بأن الدولة ترعى شؤونهم وتوفر لهم شروط العيش الكريم، ليقوى انتماؤهم اليها وتترسخ وحدة المجتمع من خلال الدولة. فالمشاركة الطوائفية في السلطة هي مشاركة في بناء دولة تلبي طموحات أبنائها في عيشهم المشترك، وليس تشارك في تقاسم المغانم والنفوذ، تتحول الدولة معه الى اقطاعات، فتغدو عاجزة عن القيام بأبسط واجباتها تجاه مواطنيها، الذين لا يعود أمامهم سوى اللجوء الى طوائفهم، فيقوى انتماؤهم الطائفي على حساب الانتماء الوطني، وتقوى الطائفة على الدولة في المعادلة التي تجمع بينهما.
لقد بينت التجربة اللبنانية ان المؤسسات الدستورية تعاني من تعثر، لا بل من شلل في ادائها، نتيجة الممارسات السياسية المتفلتة من الضوابط، وخروج المشاركة الطوائفية عن مسارها الصحيح وتحويلها الى غاية بذاتها، ما أطاح بها كوسيلة لتعزيز العيش المشترك من خلال بناء الدولة. فالصراع على السلطة، خارج الضوابط التي نص عليها الدستور والروحية التي انطوى عليها، وعدم أخذ المصلحة العامة وشؤون المواطنين بالاعتبار، أوصل الدولة الى ما هي عليه. فكيف يستطيع من هو على رأس الدولة ان يقوم بالمسؤوليات التي حمّله اياها الدستور، في دولةٍ تتنازعها قوى سياسية متفلته من الدستور والقوانين، ومرتبطة بقوى اقليمية ودولية متصارعة مع بعضها البعض، في دولة مؤسساتها الدستورية معطلة، والفساد تمأسس فيها وغدا أقوى منها، في دولة يهدر فيها المال العام، ولا موازنة لها منذ أكثر من ثماني سنوات، وهذه أكبر مخالفة دستورية لا يستطيع أحد ان يحاسب المسؤولين عنها. في دولة ازداد هزالها بفعل الممارسة السياسية، فغدت في غربة عن مجتمعها، فازدادت تفككاً وتشرذماً بفعل العصبيات المستنفرة، في دولة نفّرت الطاقات الشابة منها وذهبت تبحث عن مستقبل لها في جميع أصقاع الأرض.
عندما نص الدستور في المادة 49 على ان "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور"، افترض المشترع ان المؤسسات الدستورية، وتحديداً مجلسي النواب والوزراء، يعملان بشكل منتظم ومنضبط بما نص عليه الدستور، ولم يتحسب لما يمكن ان تتعرض له المؤسسات الدستورية من أزمات حادة بفعل الصراعات السياسية وموازين القوى، فحصر صلاحيات رئيس الجمهورية بالحد الأدنى، ولم يمنحه من الصلاحيات ما يمكنه، عند حدوث الأزمات، من استخدامها لايجاد مخارج تحول دون تعطيل اداء المؤسسات الدستورية، على غرار ما يجري في الأنظمة البرلمانية المتطورة وفي طليعتها النظام البرلماني في ألمانيا الاتحادية.
عندما نص الدستور في المادة 49 على ان "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور"، افترض المشترع ان المؤسسات الدستورية، وتحديداً مجلسي النواب والوزراء، يعملان بشكل منتظم ومنضبط بما نص عليه الدستور، ولم يتحسب لما يمكن ان تتعرض له المؤسسات الدستورية من أزمات حادة بفعل الصراعات السياسية وموازين القوى، فحصر صلاحيات رئيس الجمهورية بالحد الأدنى، ولم يمنحه من الصلاحيات ما يمكنه، عند حدوث الأزمات، من استخدامها لايجاد مخارج تحول دون تعطيل اداء المؤسسات الدستورية، على غرار ما يجري في الأنظمة البرلمانية المتطورة وفي طليعتها النظام البرلماني في ألمانيا الاتحادية.
فالأنظمة البرلمانية تطورت تحت تأثير التجارب التي مرت بها، ولم يعد رئيس الجمهورية فيها مجرد رمز، انما غدا مرجعيةً دستورية لها صلاحيات تستخدمها في أوقات الشدة، من أجل الحفاظ على انتظام اداء المؤسسات الدستورية، نظراً لما لذلك من أهمية بالنسبة للمسؤوليات التي حمّلها الدستور لرئيس الجمهورية، والتي تتطلب انتظام اداء المؤسسات الدستورية كونه أساس انتظام عمل سائر مؤسسات الدولة. وان إعطاء رئيس الجمهورية مثل هذه الصلاحيات لا علاقة له بالتوازنات الطائفية التي يقوم عليها النظام السياسي، وهو يأتي لصالح اللبنانيين جميعاً ويسهم في صون العيش المشترك، لأنه يحول دون تعطيل مؤسسات الدولة، وبالتالي تعطيل مصالحهم.
إن بنية لبنان المجتمعية والتوازنات التي يقوم عليها نظامه السياسي، ومحيطه الجيوسياسي المتوتر باستمرار، والعلاقة بين الداخل وهذا المحيط، كلها عوامل تدفع باتجاه تأجيج الصراعات السياسية وتهديد أداء المؤسسات الدستورية، ما يجعل ايجاد المرجعية الدستورية، القادرة على ايجاد المخارج الدستورية عند حدوث الأزمات، أمراً ملحاً.
إن التجربة السياسية والدستورية في لبنان غنية جداً، وينبغي الاستفادة منها، وتحديد الثغرات في نظامنا السياسي، والعمل على معالجتها بمسؤولية وطنية، والسعي الى عقلنة نظامنا البرلماني في إطار الخصوصيات اللبنانية، وفي ضوء التجارب التي مرت بها الدول وأدت الى تطوير أنظمتها الدستورية، وليس من الصعب ابتكار إصلاحات دستورية، اذا ما توافرت الارادة السياسية، يستقيم معها اداء المؤسسات الدستورية وتنتظم في إطارها العملية السياسية. والعقلنة لا ينبغي ان تقتصر على النص الدستوري، انما يجب ان تطال أيضاً الممارسة السياسية، لأن الممارسة قد تعطل النص. وفي هذا المجال ينبغي تحديد المفاهيم التي قام عليها النظام السياسي اللبناني وتؤثر في أداء مؤسساته الدستورية تحديداً واضحاً لا لبس فيه، ويأتي في طليعتها مفهوم العيش المشترك، ومفهوم الوفاق الوطني، ومفهوم المشاركة الطوائفية في السلطة. هذه المفاهيم ينبغي تحديدها في وثيقة تضاف الى الدستور ليكون له قيمة دستورية.
إن المطلوب البحث في حلول واقعية، وليس الهروب من الواقع والقفز في المجهول. وأقصى ما نطمح اليه سد الثغرات في نظامنا الدستوري وضبط الممارسة السياسية في حدود المعقول، فالظروف التي تمر بها المنطقة لا تسمح بأكثر من ذلك.
أن تضطلع كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية بتنظيم هذا المؤتمر وسط مشاركة نوعية من أهل القانون والسياسة، في إطار أكاديمي رفيع، فذلك أمر اعتادت عليه كليتنا منذ نشأتها في أواخر خمسينيات القرن الماضي.
إنها معقل العلم الحقوقي وعلم السياسة ربطاً بتراث بيروت، ورسالة لبنان الحضارية. فهي لم تفرّق بين طلابها وأساتذتها منذ نشأتها، وما فتئت جامعة للبنانيين على اختلاف فئاتهم ومذاهبهم الفكرية والسياسية.
|